الاثنين، 23 نوفمبر 2020

فخ الشهرة

(فخ الشهرة!) 

قال أبو أيوب السختياني - رحمة الله تعالى عليه - : (ما صدق عبد قط، فأحب الشهرة!).
وقال الله على لسان خليله إبراهيم - عليه السلام - : (واجعل لي لسان صدق في الآخرين). 
إذا، فالشهرة ليست مما تراد لذاتها، وانما بما تحتف بها من مصالح أو مفاسد يكون النظر إليها للحكم عليها. 
فمن طلبها لنشر الخير، وتعليم الناس، وتكثير سواد أهل الخير - مع الثبات على المبادئ الأخلاقية، والقيم الإسلامية، وعدم التنازل عن ذلك والنزول عند رغبات الجمهور أو غير ذلك -؛ فلا ضير عليه إن شاء الله. 
و طلبها - ها هنا - مجازي وليس حقيقيا؛ فهو لا يطلبها ويجري وراءها لمجرد أن يشتهر؛ بل يسلك السبيل، وما عليه أن يشتهر بعد ذلك - مع الخوف من الزلل، وعدم الاغترار بما يقول الناس -. 
فالشهرة ليست مذمومة على الإطلاق، كما أن العزلة ليست فضيلة مطلقا؛ بل ينظر إليها من جانب المصالح والمفاسد التي تحتف بها. 
هذا وإن من أكبر بلايا عصرنا:  هي هذه الشهرة! 
فكم ممن وقع في (فخ الشهرة) ولم يخرج سالما حتى تلون (تلون الحرباء) وكان في (حيص بيص)، فمرة مع (المد الشيوعي الناصري الماركسي) ولما سقط؛ اتجه للطرف المضاد مع (التيار الليبرالي العَلماني التنويري!)
 واخر كان مع الصحوة، ثم انقلب رأسا على عقب، وأضحى في صف المنادين ب (الاسلام الوسطي المعتدل!). 
أقول هذا - ليس من باب التشمت بالمخالف -؛ بل لتعلموا أن من الناس - بل الكثير منهم - من يسلك الدرب على حسب مصالحه الشخصية أين تكون، لا على حسب المبادئ المثلى، والقيم الفضلى! 
وهذا في الفاجر مفهوم، أما أن يكون من (دعاة الإسلام!). 
نعم، نحن في آخر الزمان، والعصمة منتفية عن غير الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام -. 
فواجب علينا عدم الاغترار بالشهرة ولا بأهلها أيا كانوا، وأن يكون الحق رائدنا في هذا الوجود المكتض بالفتن، الغاص بالبلايا والإحن، وأن نبني عقيدتنا وفقهنا وتوجهاتنا على الكتاب  والسنة، لا على حسب (موجات الإعلام)، أو (دعاة  الإسلام المشاهير). 
 فالشهرة درب زلق، والكتاب والسنه معصومان، ومن مات من العلماء؛ أحق بالاتباع من الأحياء؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. 
والله المستعان. 

كتبه/
 أبو عبد الملك، عبد الرحمن بن مشعل المطرفي. 
الاثنين ١٤٤٢/٤/٨

الأحد، 8 نوفمبر 2020

خطة مقترحة لتطوير مهارات الكتابة الأدبية؛ لماجد البلوشي

(خطة مقترحة لإثراء الأساليب البيانية؛ لماجد البلوشي) 

تغشاني في أوقات متباعدة أسئلة كريمة تُنبئ عن وفرة في العقل ورهافة في الحس وطموح في الهمة، يلتمسُ أصحابها الكرام أن أشاركهم خطة مقترحة لإثراء أساليبهم البيانية في كتاباتهم الإنشائية، وبادئ ذي بدءٍ فإني أشكرهم على إحسان الظن بي، وإنزال ما أكتبه منزلًا كريمًا في نفوسهم وعقولهم، وتلقّيهم لمقالاتي بالقبول.

ثم أشكرهم تارةً أخرى لأنّهم بهذه الرغبة إنّما يخدمون أمتهم العربية الإسلامية، ويُحسنون إلى أنفسهم وإلى الأدب الذي يستهدفونه بالتعلّم، وينتشلون مُريديه من متاهة الابتذال وامتهان الأساليب التي شاعت مؤخرًا.

والأدب شأنه شأن كل شيء في هذه الحياة، إذا مال الإنسان بعنايته إليه، ووهبه مستحقه من الوقت، وراح يمارسه ويزاول فيه إعمال عقله وفكره وقلمه، فلا ريب أن ثمرة ذلك ستظهر على صاحبها إن شاء الله، فما الأدب والبيان والبلاغة بأشياء مستعصية مستغلقة!

ومن أحب أن يغشى فردوس الأدب ويزاحم روّاده بمناكب الجزالة والفصاحة، فلا يثلمنَّ عزيمتَه شُحُّ ملكته الحالية، فيتوانى عن البدء متذرّعًا بضعف آلته ونقص مخزونه اللغوي والأدبي، وبُعد الشقةِ عن الوصول إلى منازل الأدباء، فإن هذه المنازل تُجتنى بالطلب الحثيث، والقراءة الدائبة، والدُربة المستمرة – على ما سوف أبيّنه – وأمّا ضعف الأسلوب في مبتدأ الحال فهو أمر طبيعي.

كان جرير – الشاعر المعروف – ما ينفكُّ مستخفًّا بشعر عمر بن أبي ربيعة، متندرًا به، غير أنَّ ذلك لم يمنع عمرَ من أن يمضي في عزيمة وإباءٍ على نظم شعره متصاعدًا بأسلوبه، غاضًّا طرفه عن تهكّم المتهكّمين، حتى أتاهم بآية نبوغه فقال قصيدته المشهورة التي سُمّيتْ لحلاوتها ورقة مجرياتها “قصب السكر”:

أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمبكرُ
غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجِّرُ

عندها خضع له جرير وقال كلمته المشهورة الذائعة: ما زال عمر يهذي حتى قال شعرًا. (الموشح للمرزباني 1/ 260).

ولم تتقيّد براعة عمر بن أبي ربيعة بهذه القصيدة فحسب، بل صار نمط قصائده أسلوبًا متبعًا في الغزل الناعم والنسيب الرقيق، وأصبح أستاذًا ملهمًا لمن جاء بعده من الشعراء الذين تعاقبوا على قول الشعر إلى يومنا هذا، بعد أن تاهت طوائف من سابقي الشعراء دهرًا يَنشُدون الغزل في الوقوف على الأطلال وبكاء الفراق، فتبدّل الشوق الغضُّ الهادئ الهامس إلى مأتم فجٍّ صاخبٍ مزعجٍ تتعالى فيه أصوات النواح والبكاء، كما قال الفرزدق عقب سماعه أبياتًا لعمر في الغزل: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكتِ الديار، ووقع هذا عليه. (الأغاني ط. دار الكتب 1/ 75)

وكي لا أطيل في هذه التوطئة، فإني ذاكر مراتب أراها مهمة، وخرائط موصلة إلى المقصود، يجمل بالمتأدب أن يتدرّج فيها حتى يصل إلى غايته إن شاء الله.

 

أوّلًا: ميزان الكلام

يحتاج المتأدب قبل أن ينتظم في عِقْد الكُتّاب إلى معرفةٍ بميزان الكلام العربي، والمتمثّل في علوم النحو والصرف والرسم، وهذه العلوم وإن لم تكن من صلب مادة الأدب، غير أنها ضابطة لإيقاع الكلام على نحو ما كانت تألف العرب في حديثها، ثم ما تواطأت على الكتابة به.

وحاجة المتأدب إلى النحو والرسم أوسع من حاجته إلى الصرف، وهو في النحو إنما يحتاج إلى القواعد التي يوظّفها في سياق نصوصه التي يكتبها، لا تلك التي تتشعب مسائلها وتنفجر فروعها، وتتعالى فيها غَبَرة الخلاف بين النحاة ويجلبون عليها بخيل نقاشاتهم ورجلها.

وما دام الأمر كذلك، فإنَّ المتون النحوية المبتدئة سهلة ميسورة وكافية في تحقيق الغاية، ومن أهمها: متن الآجرومية، وهو في شهرته بين متون العلوم الأخرى جميعًا كشهرة القمر بين سائر الكواكب، وأشار الشيخ بكر أبو زيد في المدخل المفصل 2/ 689 إلى أنَّ من درس الآجرومية وفهمها كما ينبغي فقد أفلح في النحو.

ويسامت الآجرومية في المرتبة متن آخر هو “ملحة الإعراب” للحريري، وفيها من العذوبة والسلاسة وجمال النظم شيء آسر، وتعلو على الآجرومية بكثرة مسائلها، وسهولة حفظها، ولهذا المتن شروح عدة، ومن ضمنها شرحٌ للحريري.

هذان المتنان فيهما بُلغة كافية لتحصيل اللازم من مسائل النحو، على أن يكرر طالب الأدب القراءة فيها، والاستماع إلى شروحها، دون انقطاع في أوقات متتالية.

أما لو أراد المتأدب أن يرقى درجة أعلى في سلم النحو، فثمّةَ جملة من الكتب من أهمها: متممة الآجرومية للرعيني الحطاب، وهو متن متوسط مهم، ويُعدُّ من أسباب ثراء المعرفة النحوية في بلاد اليمن، لاهتمام الشيوخ بتدريسه في حلق العلم هناك.

ومن كتب النحو المتوسطة المهمة: شرح قطر الندى لابن هشام.

ولم يعد للمتأدب عذر في الإعراض عن دراسة مبادئ النحو واستيعابها، فقد سهّل العلماء على طلاب الأدب دراسة النحو بما أذاعوه من شروحاتهم الثريّة، وعلى رأسهم ريحانة النحاة في المملكة العلامة الشيخ سليمان بن عبدالعزيز العيوني وفقه الله.

أمّا علم الرسم فالمؤلفات فيه كثيرة، ومن أشهرها كتاب العلامة عبدالسلام هارون “قواعد الإملاء” وهو كتاب مشهورٌ معروف، يحقق المطلوب لقارئه، ويعين الطالب على سلامة الكتابة دون أخطاء أو تصحيف.

 

ثانيًا: سياق الكلام

وأعني بسياق الكلام: طريقة سبكه وسرده في قوالب النثر المختلفة.

هذه المرحلة تمثّل أساس المراحل في تحصيل فن الكتابة الأدبية، وتستهدف تنمية ملكة الكاتب، وتعريضه لتيّار متدفق من الكتابات الأدبية التي أنتجها كبار الأدباء في عصور مختلفة.

والأصل المتفق عليه بين المشتغلين في صناعة النثر، أنَّ القراءة الجادة الدائبة في كتب الأدب الأصيل، والتأمل في نصوصها واستنطاق ما فيها من محاسن الألفاظ والمعاني، تُمكّن قارئها من إجادة صنعة الإنشاء، وتؤسس عنده ملكة الكتابة، لاسيّما إذا تمرّس وأخذ يتدرّب عليها بمحاكاة نماذج سابقيه أحيانًا، وبإرسال الأسلوب حينًا آخر، وهكذا حتى يستوي إبداعه ويقوم على سوق الممارسة الجادة.

ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى مراحل ثلاث:

 

الأولى: إذابة الجليد:

تمثّل مدارجه الأولى في عالم البيان الأدبي، والغرض منها إزالة الوحشة عن الأساليب البيانية الجزلة، واعتلاء ذوق قارئها إلى ربوة الأدب الجزل الفخم، فالقارئ إذن بحاجة إلى كتابات أدبية سهلة التناول، متينة البيان.

وأقترح له هذه الكتب:

1- كليلة ودمنة لابن المقفع، وابن المقفع من كبار الفصحاء والبلغاء، وكان يكتب باللغتين الفارسية والعربية، فصيحًا فيهما إلى الغاية، وعدَّ ابن النديم كتابه هذا في فهرسته (ص 140) من الكتب المجمع على جودتها في البلاغة، أما أسلوب ابن المقفع في البيان فهو في الطبقة الأولى من كتاب العربية، وألفاظه سهلة ممتنعة، ومعانيه واضحة جليّة.

ثم إنَّ كليلة ودمنة ليس كتاب بيان وأدب فقط، بل هو كتاب سلوك وأخلاق فاضلة، وتنبيه عقلي، وحكمة وإرشاد، ويُنقل أنَّ كسرى كان يُقدّر قرّاء “كليلة ودمنة” حقَّ تقدير لما يغذوهم به من الرُشد والفطنة، ويقول: كتاب كليلة ودمنة يفتح للمرء رأيًا أفضل من رأيه، وحزمًا أكثر من حزمه، لما فيه من الآداب والفطن. (الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ص 86).

2- النظرات للمنفلوطي، والذي يُعد مجدد النثر في هذا العصر ومُحيي مواته، وأسلوبه رشيق منساب، ومعانيه سهلة التناول، وللزيات مقالة ضافية عن المنفلوطي ودوره الإحيائي في الكتابة الأدبية، ضمن كتابه من وحي الرسالة 1/ 367.

وأثر المنفلوطي على مسيرة النثر العربي، أكبر من أثر الكاتب المجرد، بل هو ملهم الأجيال التي جاءت من بعده، ورائد مدرسة النثر الفني الحديثة، وكما قال العلامة محمد رجب البيومي: “والحق أن المنفلوطي كان قائد مدرسة عملت على الخلاص من العجمة واهتدت إلى صفاء الصقل ونور الديباجة، وقد أشرقت على العالم العربي إشراقًا أخّاذًا، فأخذ النثر على يد المنفلوطي يحلُّ محل الشعر في روعة التأثير، وقوة الإحساس، وصفاء الرونق. (الزيات بين البلاغة والنقد الأدبي ص 35).

وبالغ الزيات وطه حسين ومحمد غنيمي هلال في بعض نقدهم غير المنصف لأسلوب المنفلوطي، وقد أحسن أيما إحسان د. بيومي في دفاعه الرصين عن أدب المنفلوطي ضد ما جوبه به من نقد فيه بعض التحامل. (النهضة الإسلامية في سير أعلامها 2/ 576).

3- فيض الخاطر لأحمد أمين.

4- سلّامة القس لعلي أحمد با كثير.

5- صور وخواطر لعلي الطنطاوي، وهي أندى ما كتب من المقالات، وله كذلك: “مقالات في كلمات” وهي على اسمها، مقالات مختصرة لكنها حسنة لطيفة.

والشيخ علي الطنطاوي ريحانة الأدباء، كساه الله نضرة النعيم في أساليبه الكتابية والخطابية، فإذا كتب جرت حروفه كجداول رقراقة في روضة غنّاء، وإذا تحدث فإنَّ كلامه شدو البلابل يسترعي انتباه السامين ويأخذ بمجامع عقولهم، بل إنَّ كثيرًا مما نشره مكتوبًا من أدبه إنما هو في الأصل أحاديث ملقاة في الإذاعة، ثم أعاد النظر فيها ونشرها مطبوعة، فما نقص ذلك من حلاوتها ولا غضَّ من رونقها.

6- جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، يصلح أن يكون توطئة ومدخلًا موضوعيًا مبتدئًا للبيان العربي وصنعة الإنشاء، وفيه مختارات نفيسة.

تزخر هذه الكتب بأسلوب النثر المرسل الرفيع، المعروف بسهولته وسلاسته، ووضوح المعاني فيها، فالكلام فيه فصيح مطبوع قليل الصنعة والتكلف، كتبه أصحابه بألفاظ سهلة في متناول الفهم، وليس فيها المعاني الغائرة أو الأفكار الغامضة، فإذا بدأ المتأدب قراءته بها فإن لها أثرًا قويًّا في إيقاظ ملكته الأدبية.

وعلى المتأدب في هذه المرحلة ألا يشغله شاغلٌ إلا التذوق الأدبي، فيستلذ بالمقروء، ويستمتع به، ويقضي منه همته، ويهتدي إلى أساليب الأدب الراقية وينشأ عليها، فيقرأ لأجل القراءة فقط، دون أن يندفع نحو استعجال إجراء القلم بالكتابة.

 

الثانية: التأسيس:

وهي مرحلة ينتقل فيه المتأدب من النص السلس المنساب والنثر المرسل، إلى النصوص ذات الأساليب المتعددة بمدارسها المختلفة، فيألف المفردات الغريبة، ويقف على المعاني العميقة، ويلاحظ الفواصل والفقرات والسجع والازدواج، ثم يبدأ في تأسيس معجم يستخلصه لنفسه مما يدوّنه أثناء قراءته في هذا المسار من المفردات والتراكيب والمعاني والصور، ويختار له مختارات يحفظها ويكررها ويقرؤها بشكل دائم.

ومن أهم الكتب في هذه المرحلة:

– الكامل للمبرّد، من مفاخر ما عرفته العربية من كتب الأدب، وقصّر في حقه العلامة عبدالعزيز الميمني عندما جعله من كتب المبتدئة في الأدب، والميمني من كبار العلماء بالعربية، وتعليقنا على رأيه هذا لا يغضُّ من مكانته رفع الله قدره، وإنما يُرجع في التأدب لأهل الصنعة، كما قال الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي، فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فألفيته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فرأيته لا ينقد إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب: كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبد الملك الزيات. (العمدة لابن رشيق 2/ 755 ط الخانجي، وفي دلائل الإعجاز للجرجاني ص 252 نقل مهم عن البحتري يوافق كلام الجاحظ).

– البيان والتبيين للجاحظ، خريدة البلاغة الأشهر عبر العصور، وعمدة المتأدبين قديمًا وقِبلتهم التي كانوا يعكفون عليها، ألّفه الجاحظ في مرحلة متأخرة من حياته وقد اكتملت أدواته المعرفيّة وبلغ بيانه ذروة الحلاوة.

وهل عنوانه هو “البيان والتبيين” كما استفاض في أغلب نسخه الخطية، وجرى ذكره على ألسنة العلماء وفي كتبهم على تعاقب القرون، وإليه يميل الدكتور الطاهر أحمد مكي (دراسة في مصادر الأدب ص 118)، أم أنَّ عنوانه هو “البيان والتبيُّن” كما ورد عند ابن خلكان في الوفيات (3/ 471)، وهي مضبوطة كذلك مشكّلة بالحركات في نسخة الوفيات بخط ابن خلكان نفسه، وبه ضُبطت إحدى النسخ الخطية القديمة للبيان والتبيين، والتي قوبلت على أصول صحيحة (مقالات الطناحي 2/ 512) ويميل إلى هذا د. الشاهد بوشيخي والذي قدّم مرافعة طويلة في عشرين صفحة لتأييد رأيه، تجدها في كتابه “مصطلحات نقدية وبلاغية” ص 27 وما بعدها؟

الأمر متحمل، والخطب يسير إن شاء الله، وإن كنت أميل شخصيًّا إلى أنَّ عنوان الكتاب هو “البيان والتبيين” لاستفاضته وشهرته وصحة أصوله الخطيّة المتتابعة.

ومن كتب الجاحظ المهمة في البيان والماتعة في المحتوى: البخلاء، وحتم لازم أن يقرأ معها المتأدب مقدمة محققها طه الجاحري، ففيها بيان عالٍ ومدخل وثير إلى أدب الجاحظ وأسلوبه.

– زهر الآداب للحُصْري، وله أيضًا جمع الجواهر في الملح والنوادر، مجلد صغير لطيف المحتوى.

– المقامات لبديع الزمان الهمداني.

– الأمالي لأبي علي القالي، واشتهرت تسميته في كتب المتقدمين بالنوادر، كما عند ابن حزم وابن خلدون وغيرهما، وهي تسمية لكتاب واحد، حسب ما حققه الميمني وهو في المجموع من بحوثه وتحقيقاته 1/ 26.

– أخلاق الوزيرين لأبي حيان التوحيدي، وكذلك: الإمتاع والمؤانسة له، ونثر هذا العَلَم في أعلى عليين، أما صدق لهجته ففي أسفل السافلين، فما برح يكذب ويختلق ويبالغ في خصومته ويفجر فيها حتى عُدَّ في المجروحين.

– طبقات فحول الشعراء لابن سلام.

– المختار لعبدالعزيز البشري.

– أمراء البيان لمحمد كرد علي، ومقدمته مهمة.

– وحي القلم للرافعي.

– من وحي الرسالة للزيات، وهو أمير البيان العربي، كما أنَّ شوقي أمير الشعر العربي، وله يدٌ طولى ومنّة يمتنُّ بها على صنعة الإنشاء في عصرنا بما وطّأه لهم في مجلة الرسالة، التي كانت حضنًا دافئًا ومرتعًا خصبًا لكل من قصد إلى تطوير أسلوبه الأدبي.

– حديث الأربعاء لطه حسين، وكذلك “الأيام”، ونثر طه حسين كالشهد المصفّى حلاوة وجمالًا، وأمّا بعض مناهجه وآرائه فهي سمٌّ زعافٌ، جعلت منه هدفًا لمرمى سهام أهل العلم والأدب في عصره، ويُقال أنه رجع عن كثير من آرائه المثيرة للجدل.

– عبقرية عمر للعقاد.

– آثار البشير الإبراهيمي، وهي من أنفس ما يقرؤه المتأدب من كتب المتأخرين إنشاءً وحكمة وبيانًا وإذكاءً للروح الإسلامية، وكأنَّ البشير الإبراهيميَّ ببيانه المغربيِّ الأشمِّ هذا يقول للمشارقة:

إنَّ بني عمّك فيهم رماح!

ونثر البشير الإبراهيمي أعمقُ وأكبرُ من أن يكون متعةً واستلذاذًا بالبيان فحسب، بل هو مدرسة في الفكر والثقافة والتربية والحكمة الراسخة.

– جبران خليل جبران لميخائيل نعيمة، و”مذكرات الأرقش” له كذلك.

– يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم.

من أعمق أعمال توفيق الحكيم الأدبية، وفيها أفكار وتأملات ذات غور، وبلغت شهرتها حدًّا بعيدًا فترجمت إلى لغات عدة، وكان من ضمن مترجميها الأديب اليهودي أبا إيبان، ونشر ترجمته لها بعنوان “متاهة العدالة”، ثم غلبت على أبا إيبان شقوته فصار وزيرًا لخارجية الكيان الصهويني، وقد التقى به أنيس منصور وكتب عنه وعن ترجمته للرواية في كتابه “في انتظار المعجزة” ص 164.

– الثائر الأحمر لعلي أحمد با كثير.

هذه الكتب نماذج إرشادية لما يقرأه المتأدب، وليس بمتعيّن عليه أن يقرأها جميعها، وإنما يختار منها ويفاضل بينها، وهي مزيج بين كتبٍ في المختارات الأدبية، وأخرى مقالات ونصوص نثرية لعدد من الكتاب البارعين، وبعضها في فنِّ الرواية، صالحة كلها في إعانة الكاتب على تأسيس مساره النثري، وشق طريقه نحو الكتابة.

وكما للمؤلفات الموضوعة في الأدب تأثيرٌ على المتأدبين، فإنَّ أساليب العلماء وبيانهم العلمي له تأثير كذلك، ومن أشهر العلماء الذين افتنّوا بالأسلوب الأدبي بين يدي مباحثهم العلمية: الشافعي، وابن جرير الطبري، وابن جني، والجرجاني مؤلف الوساطة، وعبدالقاهر الجرجاني مؤلف دلائل الإعجاز، والمسعودي في “مروج الذهب”، والمرزوقي شارح الحماسة، والغزالي، وابن خلدون.

واشتهر ابن خلدون بالأدب والكتابة في مقتبل عمره، حتى إنه صار كاتبًا لأحد سلاطين الدولة المرينية وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ثم ذاع صيته وبلغ من اشتعال شرارة شهرته في شبابه أنَّ شيخه لسان الدين ابن الخطيب ترجم له ترجمة حافلة في “الإحاطة” (3/ 497 ط. الخانجي) وخلع عليه فيها أسبغ عبارات التبجيل والاحتفاء، علمًا أنَّ عمر ابن خلدون آنذاك في الثلاثين، ثم امتدت به الحياة فعاش بعد وفاة شيخه ابن الخطيب أكثر من ثلاثين سنة.

وتقلبت الدنيا بكل من ابن الخطيب وابن خلدون، وتشابهت بعض أحوالهما، ولَشَدَّ ما يُشجيني تعبير المقريزي وهو يصف حاجة ابن خلدون إلى الموت والراحة بعد تقلبات الحياة بقوله: “مات وهو قاضٍ موتًا وَحِيًّا – أي سريعًا – من غير تقدم مرض.. أحوج ما كان إلى الموت!”. (درر العقود الفريدة 2/ 398).

ومن مآثر لسان الدين ابن الخطيب موشّحته الأندلسية الخالدة:

جادك الغيث إذ الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلسِ

ومما أنصح به في معاملة هذه الكتب:

  • اقرأ الكتاب كاملًا بتركيز وحضور ذهن.
  • كرر قراءة الكتاب الذي ترى في نصوصه أثرًا عليك، أو كما عبّر الرافعي: اقرأ حتى ينقطع نَفَسك وأنت تقرأ.
  • حفظ ما يُستجاد من المختارات الشعرية، ولا بأس أن تجعل معك ورقةً تسجّل فيها ما تستعذبه من الشواهد الشهرية، لتجمع مختاراتك الشعرية الخاصة بك، وتكررها لتحفظها.
  • اختر قطعة أدبية وكرر قراءتها عدة مرات بصوت مسموع، حتى يستقيم لسانك على الإلقاء الفصيح.
  • إذا وجدت لفظة غريبة فاستعن عليها بالقاموس المحيط، واقرأ في معناها وما تصرّف عنها وما اشتق منها، حتى تعرف كيف تستخدم الكلمة في سياقها المناسب لها.
  • ابدأ بمحاكاة الكاتب الذي راقت لك نصوصه الأدبية، وذلك أن تكتب قطعة صغيرة تُحاكي أسلوبه، ثم كرر المحاولة بقطعة أخرى في نص آخر، وهكذا.
  • ركّز أثناء المحاكاة على أسلوب الكتّاب المتأخرين، كالمنفلوطي والطنطاوي والبشري وطه حسين، فهم أكثر مناسبة للعصر.

وهذه النقطة الأخيرة مهمة، وهي أن يكتب الإنسان ما يناسب أهل عصره، دون أن يتخلّى عن معايير الفصاحة والجزالة، إذ ليس من شرط النبوغ في الأدب محاكاة أساليب القدماء، أو الاقتصار عليها، وأشار إلى نحو هذا الكلام الأصفهاني في الأغاني في ترجمة عبدالله بن المعتز 9 – 10 / 3738 (طبعة دار الشعب) فانظره فإنه مهم.

 

الثالثة: الموسوعات الأدبية:

وهي الكتب الأدبية الطوال، وعلى رأسها:

– العقد الفريد لابن عبدربه، وأغلب كتب التراجم تسميه “العقد” دون إضافة، وبلغت حظوة الكتاب مبلغًا عاليًا، فعلى الرغم من تأليفه ببلاد الأندلس إلا أنه سرعان ما وصل إلى المشرق الإسلامي وحرص على اقتنائه العلماء والأدباء. (معجم الأدباء 1/ 464).

– الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ديوان الأدب وتاريخه المشهور، وصفه محمد كرد علي بوصف فخم فقال: “مثل هذا التأليف إذا أرادت أمة عظيمة من أمم الحضارة الحديثة أن تخرجه للناس، لا يعمل فيه أقل من خمسين عالمًا أخصائيًا في فنّه، وأبو الفرج عمله وحده!”. (كنوز الأجداد ص 164)

ومنذ أن كتبه الأصفهاني ونسخه الخطية لا تكاد تتوقف، حتى إن ياقوتًا الحموي – الناسخ المعروف – افتخر أنه كتب نسخة منه بخطه في عشر مجلدات. (معجم الأدباء 4/ 1708).

 كذلك لم تتوقف طبعاته في العصر الحديث من حين أول طبعة له وهو الجزء الأول منه نشره المستشرق الألماني المعروف كوزيجارتن عام 1840م، ثم تتابعت عليه المطابع في الشرق الإسلامي بدءًا من مطبعة بولاق الشهيرة التي طبعته عام 1305هـ في عشرين جزءًا، وهكذا توالت واستمرت المطابع ترفد به المكتبات والقراء إلى يومنا هذا.

وكان كوزيجارتن من نوابغ المستشرقين، حاذقًا بالعربية قراءة وكتابة وتذوّقًا، شجّعه على ذلك والده الذي انتدبه للدراسة على شيخ المستشرقين الفرنسيين دي ساسي، ثم حاز قصب السبق في طباعة كتب متخصصة في الأدب العربي لم يُسبق إليها، كما كان شاعرًا معروفًا بالألمانية، تربطه صداقة حميمة بالأديب الألماني الكبير جوته، وله أيادٍ طولى على جوته في وصله بالأدب الإسلامي وتبصيره به وفتح آفاقه عليه، فقد كان يترجمه له من العربية إلى الألمانية ويقرؤه عليه، ثم يقوم جوته بإعادة صياغتها شعرًا بالألمانية، وكان جوته  وزيرًا فعيّنه أستاذًا للغات الشرقية في جامعة بينا. (انظر: “معجم المطبوعات العربية والمعرّبة” لسركيس 2/ 1579، وموسوعة المستشرقين لبدوي 486، و”المستشرقون” لعقيقي 2/ 696 وهذا الكتاب من الموسوعات المهمة المغمورة، وعن صلة جوته بالثقافة العربية والإسلامية وتأثيرها عليه يُنظر كتاب “جوته والعالم العربي” لكاترينا مومزن)

كما تمادت شهرة كتاب الأغاني في حياة مؤلفه فسُيّرت به القوافل إلى الأندلس، بل إن مؤلفات الأصفهاني كانت متداولة ذائعة الصيت في الأندلس – وذلك لجاه أبناء عمومته ملوك الأندلس الأمويين – أكثر من انتشارها في المشرق الإسلامي، إذ لم يقف كثير من المشارقة آنذاك إلا على بعض كتب الأصفهاني، كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 11/ 398.

واشترى الملوك والخلفاء والأعيانُ كتابه الأغاني بمبالغ كبيرة (معجم الأدباء 4/ 1707)، ومن ذلك أنَّ المستنصر بالله أحد ملوك الأندلس أرسل إلى الأصفهاني ألف دينار على أن يبعث له نسخة من الأغاني (المغرب في حلي المغرب 1/ 186)، وقد ذُكر أنه بدأ تأليفه وهو في الثلاثين من عمره (مقدمة تحقيق السيد أحمد صقر على مقاتل الطالبيين ص 5).

ويُسمى الكتاب أيضًا “الأغاني الكبير” – وبهذا العنوان نشره المستشرق كوزيجارتن في طبعته الأولى – تمييزًا له عن كتابه الآخر المفقود “مجرد الأغاني” الذي جعله خاصًّا بالأغاني والأصوات دون تطويل بذكر أخبار الشعراء، بحسب ما نصَّ عليه في مقدمة الأغاني، وسمّاه مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال: التاريخ الكبير (5/ 130)، وياله من اسم معبّر! فالكتاب حقًّا تاريخ كبير كبير وتدوين غير مسبوق لتاريخ الأدب والشعر على مستوى جميع الأمم وشعوب الأرض.

ولا تتمحّض قيمة الكتاب ومكانته في جمع أخبار الشعراء والأدباء وأقاصيصهم المتناثرة، وهو عمل تنوء بمثله مجامع بحثية ضخمة، بل إنَّ له قيمة فنيّة أخرى تتمثّل في كون الأصفهاني صاحب نثر فاخر ولغة فخمة، وله لفتات نقديّة عالية الكعب متينة الرأي، وانظر على سبيل المثال كلامه عن الشاعر أبي تمام، فإنه قطعة أدبية عزيزة المثال.

وحال أبي الفرج الأصفهاني من المشكلات! هل الرجل مقبول في الرواية؟ وإلى ذلك يميل الذهبي (ميزان الاعتدال 3/ 123) وابن حجر (لسان الميزان 5/ 526) والألباني (الضعيفة 14/ 27) وبكر أبو زيد (طبقات النسابين 85)، أم هو متهم في نقله ويَنْحل ترجمات الأعيان من الأخبار ما لا أصل له، كما يرى القاضي عياض (ترتيب المدارك 4/ 14 ط. المغربية) وابن الجوزي (المنتظم 14/ 185) وابن تيمية (تاريخ الإسلام 8/ 100)؟

وهل مروياته الهائلة، متصلةُ السند سماعًا أو إجازة كما هو رأي محمود شاكر؟ أم أن المتصل منها مرويات يسيرة، ثم ينقل الباقي – وهو قدر ضخم – من الكتب، كما أشار إلى ذلك ابن النديم في كتاب الفهرست بقوله: “وله رواية يسيرة، وأكثر تعويله في تصنيفه على الكتب المنسوبة الخطوط، وغيرها من الأصول الجياد” الفهرست 128؟

وقد تأملت في نقد الإمامين ابن الجوزي وابن تيمية لرواية الأصفهاني، فرأيتهما يستندان على حاله في الديانة والتشيّع، وميله إلى العبث والمجون، لهذا فإنّ الأقرب في حال الأصبهاني فيما يرويه وينقله، هو رأي الإمام ابن حزم في الجاحظ، عندما قال فيه: “و.. عمرو بن بحر الجاحظ وهو إن كان أحد المجان، ومن غلب عليه الهزل وأحد الضلّال المضلين – قال تعالى: “ولا تمش في الأرض مرحًا” – فإننا ما رأينا له في كتبه تعمّد كذبة يوردها مثبتًا لها، وإن كان كثير الإيراد لكذب غيره”. (الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل 5/ 39 ط.الجيل)

وتأمل في نصِّ ابن حزم، وانظر ثراء عقله بالقرآن الكريم، وتشبّعه منه، واعتزازه بمبادئه الإيمانية، وكيف أورد هذه الآية لنقض حال الجاحظ التي امتلأ باللهو والمرح، ثم كيف أنصفه بتمييز حاليه عن بعضهما، حاله في نفسه صلاحًا وفسادًا، وحاله في روايته قبولًا وردًّا.

وهذا ما يُسمى في علم المنطق: الجهة المنفكّة.

وقد جمع د. محمد أحمد خلف الله في كتابه “صاحب الأغاني” نصوصًا كثيرة من الأغاني، تُشير بوضوح إلى تجرّد أبي الفرج في روايته، وحرصه على نقل الخبر كما هو سماعًا أو إجازة أو وِجادة، والبراءة من عهدته بإسناده إلى رواته، ومناقشة الرواة تارةً فيما يروونه، وحكمه على الأسانيد تارةً أخرى بالرد والطعن فيها، بل والحكم على الخبر بالاختلاق والكذب، ويمكن الرجوع إليها في كتاب د. خلف الله ص 247 وما بعدها.

وكتاب د. خلف الله من الكتب القليلة التي درست حال أبي الفرج الأصفهاني في روايته، وهو على ما فيه من الفائدة إلا أنّهُ من غير مختصٍّ، وثمّة كتاب آخر عن الأغاني صنوٌ له، مطبوع، وهو “دراسة الأغاني” لأديب الشام الكبير شفيق جبري، غير أنَّ الأغاني وصاحبه الأصفهاني بحاجة ماسة للمزيد من الدراسات الأكاديمية النقدية الفاحصة.

ومهما يكن الأمر فإن قيمة كتابه الأدبية مجمع عليها بين صناع النثر والمتأدبين، فهو كتاب أدب ونثر لا نظير له، والناس من بعد تأليفه عالة عليه، لكنه ليس مدوّنة تاريخية معتمدة (يُنظر: “صاحب الأغاني” لخلف الله ص 252)، بَلْه أن يكونَ كتاب اجتماع وتحليل نفسي، وهو ما التبس واختلط على كثير من المستشرقين ومن استخفّوهم من أدباء العرب فأطاعوهم، فهؤلاء لا يعرفون من كتاب الأغاني إلا ما يقتبسونه من نصوص اللهو والمجون، ويختزلون صورتهم عن المجتمع المسلم فيه، فرحين بما آتاهم علم الاجتماع من النظريات المنقوصة.

والأصفهاني في الأغاني خلط عملًا صالحًا من حفظه لأخبار الشعر والشعراء وإيراده بلغة أدبية راقية السبك، جزلة السرد، بآخر سيئٍ من بثِّه لمجون وقبائح واستسهال الموبقات، مما تسمو نفوس المسلمين عنها، غير أنَّ هذا شيءٌ من بضاعة أبي الفرج التي حذِقها: السمر والغناء والمنادمة والأُنس، وانظر تعريضًا ذكيًّا من ابن تيمية ببضاعة أبي الفرج الأصفهاني ومخرجات علمه في كتاب الاستقامة 1/ 338.

ويكثر السؤال عن طبعات الأغاني المعتمدة، وهذا يحتاج إلى تفصيل وبيان ومناسبة أخرى، غير أن طبعته عن دار صادر تؤدي الغرض، وهي موجودة في المكتبات، على أنَّ الأغاني يحتاج إلى تحقيق جديد ودراسة ضافية، فنسخ الكتاب الخطيّة غمرت مكتبات المخطوطات في العالم.

وأختم الكلام عن الأغاني وأبي الفرج بالقول أنَّ الأصفهانيَّ – مهما كان صنيعه في كتابه – إنّما هو ربيبُ العلم وخرّيجُ العلماء، ولم يكن بطّالًا يعتاش على صناعة اللهو والمجون فقط، فقد درس على نخبة من العلماء الكبار وسمع منهم كان على رأسهم الإمام ابن جرير الطبري، كما سمع منه وروى عنه طائفة من العلماء يتقدّمهم الإمام الدارقطني الذي روى عنه ولم يتعقّبه بجرح أو تضعيف، وحسبك بابن جرير والدارقطني من شمس وقمر.

– الحيوان للجاحظ، وما عرف الجاحظَ حقَّ معرفته من لم يقرأ هذا الكتاب، فهو معْلمة أدبية وموسوعة علمية عجيبة، وكم حجب اسمُه الناسَ عن قراءته ظنًّا منهم أنه في أخبار الحيوان وعجائبه فحسب! وقد أعدَّ المستشرق الأسباني ميجيل أسين بلاثيوس دراسة عن الكتاب، ضمّنها كشّافًا تحليليًا لما فيه من المباحث المختلفة، كالطبيعة والفيزياء والكيمياء وعلم النفس والديانات والفرق والمذاهب، فضلًا عن مادته الأساسية في الحيوان وفي الأدب، وقد ترجم بحث هذا المستشرق عن كتاب “الحيوان” الدكتورُ الطاهر مكي ونشره في كتابه “دراسة في مصادر الأدب” ص 130.

– نفح الطيب للمقري، والكتاب في الأصل عِدَةٌ وعدها المقري لأهل دمشق، أن يجمع لهم كتابًا في ترجمة لسان الدين ابن الخطيب الذي مضى ذكره سابقًا، فابتدأ يجمع الكتاب حتى اختلت سيطرته عليه، فطال منتظمًا تراجم الكثير من علماء وأدباء وأعيان الأندلس، واسم الكتاب كاملًا: “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب”.

وللمقري كتاب آخر نفيس لا يقل في قيمته عن نفح الطيب، واسمه “أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض” وهو مطبوع، سلك فيه طريقته في النفح، من حيث الاستطراد والتوسّع.

– خزانة الأدب للبغدادي، وهو شروح لشواهد نحوية بلغ عددها قريبًا من 1000 شاهد شعري، ثم يُبحر البغدادي في التعريف بالشعراء ومختارات من أدبهم.

إنَّ ثمرة القراءة في هذه المطولات يظهر في معرفة الأخبار والتراجم وسير الأدباء والشعراء ومواقفهم وتأثيراتهم السياسية والاجتماعية والأدبية، والانفتاح على مواضع النقد الأدبي ومناقشة الشعراء فيما قالوا والمآخذ عليهم، والوقوف على المراحل التاريخية المختلفة وإنتاجها الغزير شعرًا ونثرًا، ومعرفة مراتب الشعراء والأدباء وطبقاتهم، فضلًا عن التشبّع بالنصوص الأدبية الجزلة، وطريقة كتابة العلماء وبحثهم واستقصائهم وتوسّعهم المعرفي والأدبي.

فمتى اعتاد المتأدب القراءة في هذه المطولات الأدبية فإن ملكته تنمو منطبعة على المفردة الفصيحة، والسياق العربي الجزل الأصيل، فينعكس ذلك بشكل مباشر على إنتاجه المكتوب، لاسيما إذا عضد قراءته بحفظ المفردات والشواهد الشعرية.

وأوجز شيخ البيانيين الجاحظُ ثمرة القراءة في هذه الكتب بقوله: “والإنسان بالتعلم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير”. (البيان والتبيين 1/ 86).

وقال حيص بيص:

فحسبكم هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالذي فيه ينضحُ

فإذا امتلأ إناء عقل المتأدب بتلك النصوص الأدبية الفاخرة، فإنَّ أنامله ستنضح نصوصًا أدبيّة راقية مستطابة، لاسيّما إن أهمل الإنسان عامل الزمن، واستغرق في التمرّن والممارسة حتى يستقيم صلبه على نصوص جياد فاخرة.

و”حيص بيص” لقب على الشاعر، أما اسمه فهو سعد بن محمد الصيفي، وجدُّه أكثم بن صيفي المعروف، وإنّما سمي “حيص بيص” لأنه رأى جلبة ذات مرة فقال مستعجبًا: ما للناس في حيص بيص! فعلقت الكلمة عليه وغدت لقبًا له، وترجمته ونماذج شعره ونصوص أدبه مذكورة باستفاضة وتوسع في خريدة القصر 1/ 202، وله ترجمة كذلك في وفيات الأعيان 2/ 362.

هذا فيما يتعلق بالنثر، أما كتب الشعر فهي على درجات ثلاث:

 

الدرجة الأولى: المختارات الشعرية

وثمرة النظر في كتب المختارات الشعرية أن يستوعب القارئ المبتدئ جمالية الشعر العربي، ويطعم معانيه الواضحة وألفاظه السهلة، دون كدِّ الذهن بقراءة قصائد كاملة قد تشتمل على وحشي القول وغريب اللفظ، حيث قصد جامعو هذه الأبيات أن تكون واضحة سلسة.

وأنصح ههنا بثلاثة كتب:

– ديوان الحماسة لأبي تمام، ولم يلق كتاب في مختارات الشعراء من الشهرة والقبول ما لقيه هذا الكتاب، فاستحسنه العلماء والأدباء والمؤرخون، حتى قيل: أبو تمام في اختياراته أشعر منه في شعره، وحتى تعرف علوَّ منزلة أبي تمّام في مختاراته هذه، فانظر كيف تلقّاها علماء النحو والغريب بالقبول، وهم ذوو المعايير الحادة في قبول الشواهد، وأصحاب التشدد الصارم في الاستدلال.

ولا يكمل الحديث عن حماسة أبي تمام دون أن نقرن إليه صِنوه المهم شرح المرزوقي على الحماسة، وهو الكتاب البديع الذي حوى مقدمة نفيسة استحوذت على إعجاب النقاد والباحثين، وشرحها العلامة الطاهر ابن عاشور في كتاب مطبوع، قال عنها عبدالسلام هارون: “مقدمة نفيسة جريئة، تُعدُّ وثيقة هامة في تاريخ النقد الأدبي: نقد الشعر ونقد النثر.. ومثالًا في البيان، وغاية في إصابة الحكم” (مقدمة تحقيقه على شرح الحماسة 1/ 17)، كما وصفها د. إحسان عباس بأنها عزيزة النظير تنمُّ عن ذكاء فذٍّ وفكرٍ منظَّمٍ. (تاريخ النقد الأدبي عند العرب 398 وهو كتاب صلْب قضى د. إحسان سنواتٍ في تأليفه)

والمرزوقي صاحب قلم بديع ونثر فخم، يأخذ بإعجاب القارئ، حتى إنَّ بعض العلماء شبَّه نثره بنثر ابن جنّي في جزالته وحُسن سبكه (معجم الأدباء 2/ 506)، والمرزوقي قرينٌ لابن جنّي في التتلمذ على إمام العلم في زمانه أبي علي الفارسيِّ فقد قرأ عليه كتاب سيبويه، وإن كان ابن جنّي أسنَّ منه وتوفي قبله بثلاثة عقود.

– طبقات الشعراء لابن المعتز، وهو أرفع مرتبة من أن يكون كتاب اختيارات شعرية مجردة، بل هو كتاب أدب وشعر وإنشاء ملوكي، فإنَّ ابن المعتز من الملوك الشعراء والأدباء الكبار، وصاحب بيان رفيع وأسلوب يذوي معه الورد خجلًا من حُسن سبكه وجمال لفظه.

– ديوان الشعر العربي لأدونيس، ولا يهولنك الاسم فتستعظم ذكره ههنا، فكم كان مُجيدًا في كتابه هذا قاتله الله! فهي مختارات نفيسة رائقة، جمعها مرتبًا لها حسب طبقات الشعراء الزمانية مبتدئًا بالعصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر، ودلَّ اختياره لها على ذائقة عالية ورصد مُحكم، لكن ينتقد عليه أنه أغفل مختارات شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، وصِنوه حافظ إبراهيم، وحسبك بهما شعرًا وإبداعًا، فقد أحيوا موات المعاني وجدّدوا عمود الشعر بعد طول خمول وهجوع.

وحتى تبصر قيمة هذا الكتاب والجهد الذي بذله صاحبه فيه، فانظر إلى اختياراته من شعر ذي الرمة، وهو الشاعر الذي نجم بلغته الصعبة وألفاظه الوعرة، حتى شقَّ على كبار الأدباء كالثعالبي أن يختاروا منه ما يرقُّ ويروج عند عامة القرّاء، فجاء أدونيس وعكف على ديوانه وذلّلهُ فتوخّى من شعره أرقه وأنداه ثم اختاره في كتابه، حتى كأنْ لم تكن تلك الأبيات لذي الرمة ذي الطبع العسِر.

 

الدرجة الثانية: القصائد الكاملة

الغرض من قراءة القصائد الطوال أن يقف القارئ على أساليب الشعراء، وطريقة تركيبهم للقصيدة وما تتضمنه من الأغراض المتعددة، وبراعتهم في الاستهلال والابتداء، ثم الدخول من غرض إلى آخر ببراعة حُسن التخلص، وهذا لا يمكن أن يعرفه المتأدب إذا قصر نفسه على القراءة في كتب الاختيارات، لأن تلك الكتب إنما تجمع المعنى الواحد والغرض المشترك من القصيدة، أما القصيدة الطويلة فإنها تجمع أغراضًا متعددة، والشعر العربي قديمًا لم يكن يعترف بما يُسمى في زماننا هذا بالوحدة الموضوعية للنص، إلا في أغراض خاصة كالرثاء، ولهم في ذلك عذرهم البيّن لأن المقام مقام توجّع وفقد!

وسأذكر في القصائد الطوال ثلاثة مجاميع أراها مؤدية للغرض:

الأول: المعلقات السبع، وهي أشهر ما في التاريخ العربي من الأشعار، ويستعين عليها القارئ بشيء من شروحها وهي معروفة ومن أشهرها شرح الزوزني.

الثاني: أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي لفاروق شوشة، من أرق المختارات الشعرية وأعذبها، وكما يقول إخواننا من أهل مصر في المثل: الجواب باين من عنوانه!

الثالث: مجموع من اختياري، ذكرت فيه قصائد أراها من عيون الشعر العربي قديمًا وحديثًا، وهذه القصائد هي:

1- قصيدة لقيط بن يعمر الإيادي:

يا دار عَمْرة من مُحتلِّها الجرَعا
هاجت ليَ الهمَّ والأحزانَ والوجعا

وهي من موجعات القصائد، حاول فيها استثارة انتباه بني عمّه من بني إياد، حيث كان شاعرًا مثقفًا عالمًا بالفارسية متقنًا لها، فاستخلصه كسرى فارس لنفسه في بلاطه مستشارًا نديمًا مُترجمًا، وعلم فيما علم أن كسرى ينوي غزو بني عمه، فأصابته نخوة العربي وأدركته الحميّة، فكتب لهم هذه القصيدة الثائرة التي تمثّل رمزًا في شعر التحذير والتعبئة العامة، غير أنّها لم تؤتِ ثمارها فغزا كسرى قومه، ثم علم بقصيدة لقيط فقتله قتلة أليمة، وعند الله تجتمع الخصوم!

2- قصيدة المثقّب العبدي:

أفاطمُ قبل بَيْنكِ متّعيني
ومنعُكِ ما سألتُ كأنْ تَبيني

3- قصيدة السموأل بن عادياء:

إذا المرءُ لم يَدْنَس من اللؤم عرضُهُ
فكلُّ رداءٍ يرتديهِ جميلُ

4- قصيدة كعب بن زهير:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ
متيّم إثرها لم يُفدَ مكبولُ

وهي في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذار له.

5- قصيدة الخنساء:

قذى بعينكِ أم بالعين عوَّارُ
أم ذرّفتْ إذ خلت من أهلها الدارُ

في رثاء أخيها صخر، وحسب الخنساء فخرًا بعد صحابتها للنبي صلى الله عليه وسلم، أن خلّد التاريخ ذكرها بهذه المراثي الشجيّة، وغطّت شمسُها كواكبَ شعراء كثيرين فأخمدت مراثيهم.

6- قصيدة الحطيئة:

ألا طرقتنا بعدما هجدوا هندُ
وقد سِرنَ خمسًا واتلأبَّ بنا نجدُ

7- قصيدة جرير:

بان الخليطُ ولو طوّعت ما بانا
وقطّعوا من حبال الوصلِ أقرانا

8- قصيدة القطامي:

إنا محيّوك فاسلم أيها الطللُ
وإن بليت وإن طالت بك الطِّيَلُ

والقطامي من فحول الشعراء غير المكثرين، له قصائد نخبٌ جِيادٌ لكن لانغماره لا يعرفها كثير من القراء، أما استهلاله في قصيدته هذه فهو من البراعة ما جعل أهل الأدب يخضعون له، ويمدحون حسن افتتاحه، حتى عدَّها بعض النقاد أفضل ما افتتح به الإسلاميّون شعرهم (خزانة الألباب 2/ 371)، وقال ابن الأثير: من شاء أن يذكر الديار والأطلال في شعره، فليتأدب بأدب القطامي على جفاء طبعه، وبعده عن فطانة الأدب، فإنه قال: “إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل”، فبدأ قبل ذكر الطلل بذكر التحية والدعاء له بالسلامة. (المثل السائر 2/ 225، وانظر إلى احتفاء قريب منه في نفح الطيب 2/ 677)

وقد حقق ديوانه العالمان العراقيان د. إبراهيم السامرائي و د. أحمد مطلوب، و د. مطلوب عالم فحْل مغمور، وهو صاحب العمل الموسوعي الفذِّ “معجم المصطلحات البلاغية وتطورها”، وله بحوث علمية رصينة أخرى كثيرة، نال بها جائزة الملك فيصل في اللغة والأدب، وهو زوج العالم العراقية والنحوية البارعة د. خديجة الحديثي، وأجمِلْ بهما من زوجين.

9- قصيدة معن بن أوس:

عفا وخلا ممن عهدت به خُمُّ
وشاقك بالمَسحاء من سَرَف رسمُ

قال الأصمعي عن هذه القصيدة: “أجود ما قالته العرب!”، وقد صدق، ففيها تطبيق عملي لمبدأ كظم الغيظ واستبدال المحبة بالعداوة.

10- قصيدة بشار بن برد:

جفا ودّه فازورَّ أو ملَّ صاحبُهْ
وأزرى به أن لا يزال يعاتبُهْ

وفيها بيته المشهور الذي صار مأدبة ينتابها الأدباء والنقاد، فيتسامرون عليه، ويتبادلون كؤوس الحديث عن دقته في الوصف وبراعته في التشبيه مع كونه أعمى:

كأنَّ مَثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبُهْ

وكان بشّار ذا همّة جامحة وطموح سامٍ، تروي عنه كتب الأدب أنّه قال: ما قرَّ بي قرارٌ مذ سمعت قول امرئ القيس:

كأنَّ قلوبَ الطير رطبًا ويابسًا
لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

حتى صنعتُ: كأنَّ مثار النقع.. البيت. (العمدة لابن رشيق 1/ 475).

قال الطاهر بن عاشور: “وقد اتفق أئمة الأدب على أنَّ تشبيه بشار قد فاق تشبيه امرئ القيس الذي تقدمه، وفاق تشبيه من تأخّر عن بشار” ثم بيّن سبب هذا التفوّق، وهو في مقدمة شرحه على ديوان بشار 1/ 46، وتشتمل هذه المقدمة على دراسة مهمة عن بشّار في سيرة حياته وأسلوب شعره، يحسن بالمتأدب الوقوف عليها.

فانظرْ كيف حلّقت ببشّار همته وطموحه وإصراره على المنافسة، حتى بلغت به مبلغ فحول الشعراء وصار معدودًا فيهم، وهكذا ينبغي أن يكون طموح الإنسان وهمته، تستفزّه إلى العلياء وتقرنه بالكبار، وتسمو به عن سفساف الأمور وصغيرها.

11- قصيدة أبي نواس:

أيها المُنتاب من عُفُرِهْ
لستَ من ليلي ولا من سَمرِهْ

كتبها إثر قصة حب فاشلة انتهت بخيانة من محبوبته، كما في ترجمته من مختار الأغاني 4/ 122 – 123، والمختار وإن كان اختصارًا، إلا أنّه أربى على أصله بما أورده من ترجمة ضافية لأبي نواس.

وعدّ أبو نواس هذه القصيدة أفضل شعره (مختار الأغاني 4/ 125)، وقال عنها المبرد: ما أحسب شاعرًا جاهليًّا ولا إسلاميًّا يبلغ هذا المبلغ، فضلًا عن أن يزيد عليه جزالة وفخامة. (وفيات الأعيان 3/ 350)

وقد عارضها علي بن جبلة المعروف بالعكوّك، في قصيدة لا تقل عنها في قوة السبك وبراعة المعنى، بل فاقتها في الشعر وذيوع الصيت والتمثّل بما فيها من الأبيات السائرة، فقال:

ذادَ وِرْدَ الغيِّ عن صَدَرِهْ
وارعوى واللهو من وَطرِهْ

وهي في مدح أبي دُلَف، وفيها البيتان الشهيران:

إنما الدنيا أبو دلفٍ
بين مبداه ومحتضرِهْ

فإذا ولَّى أبو دلفٍ
ولّتِ الدنيا على أثَرِهْ

ونال العكوّك بهذه القصيدة شهرة طاغية حتى قال الجاحظ: “كان أحسن خلق الله إنشادًا، ما رأيت مثله بدويًا ولا حضريًا” (وفيات الأعيان 3/ 350)، ونعتَ ابن المعتز شهرة هذه القصيدة الفائقة قائلًا: “وقد سارت هذه في أبي دلف، مسير الشمس والريح” (طبقات الشعراء 178)، فلم يزل صيت القصيدة يعظم حتى وصل إلى بلاط الخليفة المأمون في بغداد، وتسامر على ذكرها أغمار الناس في مجالس الأنسِ على ضفاف دجلة والفرات، مما دفع بالمأمون إلى الحقد عليه، لأنّ العكوّك مدح وزيره بما لم يمدحه به، فكانت هذه القصيدة سلاحًا ذا حدين: فهي سبب شهرته وذيوع صيته، ثم كان فيها حتفه وموته كما في بعض الروايات، والقصة في ترجمته في الأغاني 20/ 14.

ومما يُنسب إلى العكوّك كذلك القصيدة اليتيمة:

هل بالطُّلول لسائلٍ ردُّ
أو هل لها بتكلّمٍ عهدُ

قال عنها ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 273: “فيها معان حسنة كثيرة”، واختلف المؤرخون والنقاد في قائلها، فتارة تُنسب إلى العكوّك، وقبل بل هي لدوقلة المنبجي، غيرَ أنَّ هذه القصيدة ما برحت تتأبّى على الشعراء، وتتعالى عليهم، حتى ذكر ابن خالويه أنها نُسبت إلى سبعة عشر شاعرًا، كما روى ذلك عنه ابن خير الإشبيلي في فهرسته ص 493، وقد نشرها في طبعة مفردة د. صلاح الدين المنجد، وقدّم لها بمقدمة موسعة حاول فيها فكَّ طلاسم اللغز المحيّر عن صاحب القصيدة، وجمع ما وقف عليه من مخطوطات القصيدة، وأسانيد رواتها. (انظر كتابه “القصيدة اليتيمة برواية القاضي علي بن محسن التنوخي” ص 5 إلى 21).

والقصيدة اليتيمة مضمّنة في كتاب فاروق شوشة، لهذا لم أفردها بالذكر هنا.

12- قصيدة ابن مناذر:

كلُّ حيٍّ لاقى الحِمام فمُودي
ما لحيٍّ مؤمل من خلودِ

عدّها المازني من أجمل ما قالته العرب من المراثي (معجم الأدباء 2/ 762)، وقال ابن المعتز: “ومرثيّته قد سارت في الدنيا، وذُكرت في المراثي الطوال الجياد، وهي فَحْلة محكمة فصيحة جدًا” (طبقات الشعراء ص 122)، واختارها المبرّد في الكامل ضمن ما استحسن من الشعر، وأثنى عليها بثناء فخم، وحسبك من شعر يختاره المبرد ويثني عليه. (الكامل 3/ 1426 ط.الرسالة)

13- قصيدة أبي تمام:

كذا فلْيجلَّ الخطب وليفدح الأمرُ
فليس لعين لم يَفِض ماؤها عذْرُ

والمستجاد من شعر أبي تمام معروف، وإنما اخترت هذه القصيدة لأنها في غرض الرثاء والندبة، ولم يُفتح لأبي تمامٍ فيه، وغارت ملكته في الرثاء حتى انقطع ماؤه وذهب حُسنه، غير أن قصيدته هذه من غُرر الشعر العربي ونوادره.

وأبو تمام في ثقافته وعلمه وأسلوبه الشعريِّ؛ سواءً في اختياراته أو في مدرسته في صناعة المعاني، أكثر امتلاءً وأثرًا في الذين جاؤوا بعده؛ من شعره ونظمه، لهذا كانت عثراته في الشعر ملقاة على جنبات الطريق في قصائده ولا تكاد تُخطئها العين، ولعلَّ من أسباب ذلك أنّه بدأ يختط هذه المدرسة الجديدة في المعاني، فلم تختمر بعد فحصلت له فيها كبوات ووقعت له هفوات، وأيًّا ما كان الأمرُ، فإنَّ الجيّد من شعر أبي تمام كثير معروف، ولا يكاد يبلغ شأوه فيه أحد.

14- قصيدة البحتري:

أُخفي هوىً لكِ في الضلوعِ وأُظهرُ
وأُلامُ في كمدٍ عليكِ وأُعذرُ

إذا كان الأعشى صناجة العرب فإن البحتري موسيقار العرب، وقد أجاد ابن الأثير بوصف البحتري قائلًا: “أراد أن يشعر فغنّى” (المثل السائر 2/ 348)، لأنَّ موسيقى شعره وجرس ألفاظه مُطربة جدًّا، وأشعار البحتري يُسمّيها بعض النقاد: سلاسل الذهب، لعذوبتها وإحكام سبكها، أما قصيدته هذه فقد تواجد لها ابن خلكان – وهو من هو في معرفته بالشعر والأدب – وطرب طربًا عظيمًا فقال بعد أن أورد مقتطفات منها: “هذا الشعر هو السحر الحلال على الحقيقة والسهل الممتنع، فلله دره ما أسلس قياده وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه وألطف مقاصده، وليس فيه من الحشو شيء، بل جميعه نخب”. (وفيات الأعيان 6/ 26).

ومن محاسن البحتري أنَّه أعاد للشعر المطبوع أناقته وبهاءه، بعد أن كاد سنا برق شيخه أبي تمام يخطف أبصار الشعراء المطبوعين بما بهرهم به من غرائب معانيه المركبة الغامضة، فأوشك أن يقضي عليهم بالضربة القاضية، حتى انبعث قريض البحتري فأخطرهم ما كانوا عنه غافلين، وأعاد لهم توازنهم وثبّتهم في مواقعهم، فلم يذب البحتري في هوى شيخه أبي تمام ويسلك طريقته في الشعر، بل انبتَّ عنه وباينه أشد المباينة، فكانت له شخصيته الفردة وطريقته الرشيقة الخاصة.

وفي الوساطة للقاضي الجرجاني ص 25 وما بعدها، كلام عذبٌ رقراقٌ في وصف شعر البحتري السهل الممتنع، وعرض نماذج مطربة منه.

وكان البحتري تيّاهًا خطِرًا مزهوًا بنفسه معجبًا بحاله، غير أنَّ ذلك لم يحمله على التنكّر لأستاذه وابن عمه أبي تمام، فعندما أراد أحدهم أن يرفع منزلته فوق أبي تمام بقوله: يزعم الناس أنك أشعر من أبي تمام! فردَّ من فوره بجواب الوفاء والخضوع لشيخه قائلًا: “والله ما ينفعني هذا القول، ولا يضرّ أبا تمام، والله ما أكلت الخبز إلا به، ولوددت أن الأمر كما قالوه، ولكني والله تابع له، لائذ به، آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه”. (الموشح للمرزباني ص 411).

15- قصيدة المتنبي:

لكل امرئ من دهره ما تعوّدا
وعادة سيف الدولة الطعن في العِدا

وهي من روائع شعره الكبرى، ومفاخره الحِسان، لاسيما في هذا الاستهلال الفائق البراعة، وتتجلّى في أبيات هذه القصيدة خصائص أدب المتنبي، وزهوه بذاته وخبرته بطبائع النفوس وعمق حكمته وتجربته.

لكن ماذا أعطى المتنبي لسيف الدولة، وماذا أخذ منه! أعطاه خلود الذكر بقصائده الباقية بقاء الشمس في كبد السماء إلى أن يطويها الله بيمينه، وأما ما أعطاه إياه سيف الدولة فقد غدا نسيًا منسيًا وأثرًا بعد عين، فانظر كيف يبقى العلم والأدب، وتتوارى الأعطيات والأموال.

فاحرص على ما يبقى إن كنت تريد أن يُجري الله لك لسان ذكر حسن في الآخرين، وخذ مما يزول من عرض الدنيا ومتاعها على قدر الكفاف والحاجة.

ولو لم يكن للعرب من دواوين الشعر إلا ديوان المتنبي، لكفاهم في مفاخرة أمم الأرض الأخرى، واستدلوا به على قوة الأدب العربي وأثره في الثقافة والاجتماع والنفوس.

وتأمل كيف غدا العيد سوداويَّ الإهاب، عديم الفرحة عند كثيرين، بعد أن ملأهم المتنبي من قوله:

عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عدتَّ يا عيدُ
بما مضى أم بأمر فيك تجديدُ

وأظنُّهُ أكثر بيت تمثّل به الناس في الأعياد، وإن كان يُباين فرحة العيد ويضادها تمام المضادة، ولله في خلقه شؤون!

16- قصيدة أبي العلاء المعري:

غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي
نَوح باكٍ ولا ترنّم شادي

وهي رثاءٌ بنَفَس فلسفي راقٍ.

17- قصيدة الأنباري:

علوٌّ في الحياة وفي المماتِ
بحقٍّ أنتَ إحدى المعجزاتِ

وصف الثعالبي هذه القصيدة بقوله: “قصيدة فريدة، تدل على أنَّ صاحبها من أفراد الشعراء” (يتيمة الدهر 2/ 439)، وقد تتابع ثناء الأدباء والمؤرخين على القصيدة، وما فيها من المعاني والأوصاف الفريدة غير المسبوقة، على أنَّ قائلها لم يشتهر بالشعر الكثير.

18- قصيدة علي بن المُقرّب العيوني:

تجافَ عن العُتبى فما الذنبُ واحدُ
وهَبْ لصروف الدهر ما أنتَ واجدُ

تتوارى خلف كلمات هذه القصيدة روح المتنبي ونفَسه الشعري، فهي في الحماسة وشكاية الحال كأنها جذوة وقبس من نار أشعار المتنبي وروحه المتوهّجة المقدامة، واشتهر من شعر ابن المقرب وذاع ما كان في غرض الحماسة، حتى عُنون بذلك ديوانه في نسخته المخطوطة: ديوان الإمام ابن المقرب الحماسي. (انظر: “علي بن المقرب العيوني حياته وشعره” للدكتور علي الخضيري ، 236، وهذه الدراسة أوفى ما كُتب عن العيوني في التعريف بحياته ودراسة شعره).

19- قصيدة أبي البقاء الرَّندي:

لكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ
فلا يُغر بطيب العيش إنسانُ

لو أعدنا إنتاج الحزن في هيئة أدبية لما كان إلا هذه القصيدة، فمذ قالها الرندي وهي تستدر الدمع وتُشجي النفس وتذيب القلب، ولا يسمع الناس بنكبة جرت في بلاد المسلمين إلا وينشدون مختاراتٍ من قصيدة أبي البقاء الرندي ويسقطونها على هذه النوازل والفواجع.

وأفضل دراسة وقفت عليها لأبي البقاء الرندي في سيرة حياته وأسلوب أدبه وتحليل شعره لاسيما مرثيته، هي تلك الدراسة الضافية التي نشرها د. الطاهر أحمد مكي في كتابه النفيس “دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة” ص 276 وما بعدها، وحسبك بدراسة عن الأدب الأندلسي يكتبها هذا العلامة الفذ، فقد كان من أعلم أهل الأرض بأدبهم.

20- قصيدة الطغرائي:

أصالة الرأي صانتني عن الخطلِ
وحِلية الفضل زانتني عن العَطَلِ

وهي المسمّاة “لامية العجم”، وقد اشتهرت وذاعت وتصدى لشرحها الصفدي في كتاب سمّاه “الغيث المنسجم في شرح لامية العجم” وهو مطبوع.

21- قصيدة أبي الحسن التهامي:

حكم المنية في البريّة جاري
ما هذه الدنيا بدار قرارِ

22- قصيدة بهاء الدين زهير:

أنا في الحب صاحب المعجزاتِ
جئتُ للعاشقين بالآياتِ

23- قصيدة أحمد شوقي:

ريم على القاع بين البانِ والعلَمِ
أحلَّ سفك دمي في الأشهر الحرمِ

24- قصيدة حافظ إبراهيم:

كم ذا يُكابد عاشق ويلاقي
في حب مصر كثيرةِ العشّاقِ

25- قصيدة عمر أبو ريشة:

يا عروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيول الشهبِ

26- قصيدة نزار قباني:

فرشتُ فوق ثراكِ الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا تبدأ العتبا؟

وقد أعاد نزار قباني للشعر العربي الفصيح رونقه الشعبي، فتداوله الناس وقرؤوه وأصبح – بحسب تعبير أحد الأدباء – وجبة شعبية، وشعره السياسي أقوى من شعره الغزلي.

ويعاب على نزار أنه يستخدم مبتذل الألفاظ، وينأى عن الجزل الفخم، ولعل هذا من أسباب رواج شعره لدى عامة الناس وتداولهم له، لأنه مكتوب باللغة التي يألفونها.

27- قصيدة البرودني:

ما أصدق السيف إن لم يُنضه الكذبُ
وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ

هذه القصيدة يُمكن تسميتها بالدامغة، لأنَّ البردوني ألقاها في مهرجان المربد الشهير، وكان آنذاك مغمور الذكر إذا ما قورن بالمدعوين الآخرين من أمثال الجواهري ونزار قباني وغيرهم، فلمّا ألقاها خضعوا لموهبته وصفّقوا تصفيقًا دوّى صداه في أنحاء القاعة، ثم جاءه نزار قبّاني يجرُّ إزاره معجبًا بموهبته، معترفًا بفضله، وسلّم عليه وأثنى على شعره ثناءً رفيعًا.

وعن القصائد المعنونة بالدامغة، والتفريق بينها وبين المعارضات الشعرية، يُمكن الرجوع إلى بحث لطيف للدكتور مقبل التام عامر الأحمدي، عنوانه: “الدوامغ الشعرية بين القحطانية والعدنانية”، منشور في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق 88/ 1020.

وعمر أبو ريشة، والبردوني، والجواهري، من رؤوس الشعراء في عصرنا، لكن يؤخذ على الجواهري أنه أكثر من قول الشعر حتى ضاع المستجاد من شعره في خِضم العادي، وهي ذات المعضلة التي عانى منها شعر ابن الرومي.

فهذه سبعة وعشرون قصيدة معروفة مشهورة.

وهي أمثلة للاسترشاد والدلالة على نظائرها، أو كما يقول الأصوليّون: ذكر بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، وإلا فإنَّ مستطاب شعر العرب لا يمكن حده أو حصره، والأذواق تتفاوت.

ومن الطبيعي إذا قرأ المتأدب القصيدة كاملة، أن يلحظ فيها تباينًا في قوة المعاني وجزالة الألفاظ حتى داخل القصيدة الواحدة، فإن لكل مقامٍ مقالًا، فهذه طبيعة الشعر، ولما عابوا على أبي تمام بعض أبياته في قصيدة له، وطلبوا منه حذفها لأنها ليست بجيدة، ردَّ عليهم قائلًا: مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده، فيهم الجميل والقبيح والرشيد والساقط، وكلهم حلو في نفسه!

وأكّد هذا المعنى الرافعي فقال: وإذا كان الشعر ضربًا من الصبغ وجنسًا من التصوير، فلا ينبغي أن يكون كله ماءً ورونقًا، وهو اللون البليغ الذي يريدونه، لأن تصوير الحياة العامة يحتاج إلى الألوان الكثيرة، وربما دخل فيها أقبح الألوان فكان أحسن شيء، لوقوعه مع المناسبة بين الألوان الأخرى. (تاريخ آداب العرب 3/ 77)

 

الدرجة الثالثة: الدواوين الكاملة

لا بد للمتأدب إذا ارتقى في سلم القراءة في الشعر أن ينهل من دواوين الشعراء، ويطلع عليها ويكتشف مخبآت كنوزها، ففي الدواوين من كنوز الأدب والحكمة والصور والتراكيب شيءٌ يُذهل القراء.

ومن أهم الدواوين الشعرية:

  1. ديوان امرئ القيس
  2. ديوان النابغة الذبياني
  3. ديوان زهير بن أبي سلمى
  4. ديوان جرير
  5. ديوان أبي تمام
  6. ديوان البحتري
  7. ديوان أبي فراس الحمداني
  8. ديوان المتنبي، وكما أسلفتُ فلو لم يقرأ قارئ في شعر العرب إلا هذا الديوان، لكفاه في الاستدلال على قوة الشعر وتصويره للحياة وتدوينه لما يجده الناس في نفوسهم.
  9. سقط الزند للمعري
  10. ديوان أحمد شوقي

ونصيحتي للمتأدب أثناء قراءته للشعر ما يأتي:

– حفظ أبيات الحكمة، وما يصلح للاستشهاد اليومي.

– حفظ مقاطع يستحسنها ويجمعها موضوع واحد، كأبيات الغزل، أو الرثاء، أو الآداب العامة.

– اختيار مجموعة شعرية خاصة، تجتمع للمتأدب من قراءته في القصائد.

– الاهتمام بالتشبيهات والمعاني الواردة في القصيدة، وانتخابها واختيارها، فهي من أهم الأمور الأدبية، وترفع قوّة الخيال عند المتأدب.

– التدرج بحفظ المقاطع المنتخبة، وصولًا إلى حفظ القصيدة الكاملة.

– التدرّب على حلِّ الشعر، وذلك بإعادة كتابة البيت الشعري منثورًا.

– عدم إهمال قراءة الشعر الجاهلي، والاستعانة على فهم غوامض ألفاظه وغريبها بالشروحات.

 

ثالثًا: مُحسنات الكلام وزخارف الأسلوب

هذه مرتبة متقدمة في صناعة النثر، يصل إليها المتأدب وقد قرأ كثيرًا، وبدأ يعتاد على الكتابة ويروض قلمه عليها، وصار عنده أسلوبه الذي راح يتشكل ويتكوّن بمرور الوقت، عندها يتهادى بألفاظه المنتقاة ويتمايل بمعانيه الخاصة.

وتستهدف هذه المرتبة رفع مستوى الكتابة وإضفاء لمساتٍ من البهاء اللفظي باستخدام الأساليب البيانية والبلاغية وقواعدها المتقررة عند علمائها، والتعرّف على محسنات النصوص وبديع ألفاظها وقوانين استخدامها، إضافة إلى معرفة ما يُعاب على الكاتب وما ينبغي عليه تجنبه.

ومن الكتب المهمة لهذه المرتبة:

1- المثل السائر لابن الأثير.

وهو كتاب جليل عظيم النفع، يُعلّم قارئه أساليب الكتابة، ويأخذه في نزهة أدبية فخمة، وقد أثنى عليه الرافعيُّ ثناءً عاطرًا في رسائله إلى أبي ريّة فقال: وتفقه في البلاغة بكتاب المثل السائر، وهذا الكتاب وحده يكفل لك ملكة حسنة في الانتقاد الأدبي، وقد كنت شديد الولوع به.

2- الصناعتين للعسكري.

3- فقه اللغة للثعالبي.

4- العمدة لابن رشيق.

5- أساس البلاغة للزمخشري.

وهو كتاب عظيم النفع جدًا، وبالرغم من أهميته يكاد ذكره ينغمر عند القرّاء، فقد جمع فيه أساليب العرب وطرقها في التعبير في صياغة الكلام وتركيبه من المفردات المعروفة حقيقة ومجازًا.

6- الأمثال للميداني.

ويستفيد منه المتأدب معرفة الأمثال المشهورة عند العرب، ليضيف منها ما يناسب كتاباته ونصوصه الأدبية.

والأمثال في البيان العربي كالقواعد الفقهية، تنتظم تحتها المعاني الكثيرة في ألفاظ وجيزة محكمة مسبوكة، فلا تترك حظك منها قراءة وحفظًا وكتابة، فهي من أمارات الثقافة الأدبية العالية.

7- أساس البلاغة للجرجاني.

8- معجم أخطاء الكتاب لزعبلاوي.

ثم أمّا بعدُ:

فإنَّ جميع ما سبق ذكره، سيغدو هباءً منثورًا لا قيمة له ما لم يكن لدى المتأدب شَرَه للقراءة ونهم بالاطلاع، فالقراءة المكثفة المتواصلة في كتب الأدب بمراتبها المختلفة تعود على صاحبها بالنفع الكبير في تقويم أسلوبه الكتابي.

وما من شيء يمكن أن يُنال دون تعب وكدح ونصب في تحصيله!

ولم تكن طريق أولئك الأدباء الموصلة إلى ذروة النبوغ هيّنة سهلة، إنما كانت محفوفة بمشاقِّ التحصيل الدائب، والعكوف المستمر على الكتب قراءة وحفظًا وتحليلًا ونقدًا، فكانوا يصلون الليل بالنهار في تتبع مستجاد النصوص، ولا تكلُّ آلتهم عن تحصيل مبتغاهم من الإثراء المعرفي والأدبي.

ثم إذا قرأ المتأدب وقرأ وقرأ، فعليه أن يرتاض على الكتابة بإجراء القلم على نصوص قصيرة مختصرة، يُحاكي فيها أساليب أهل البيان، أو يبتدئ أسلوبه المرسل دون تقييد بأسلوب من سبقه، فإنَّ التدرب على الكتابة مع الاستمرار عليها وترصيعها بمختارات الألفاظ البليغة هو أُسُّ النبوغ في الكتابة، وهي أصل تكوين الملكة بعد تشبّع المتأدب من القراءة.

وخذ بنصيحة الجاحظ في كتابه الذي هو مصحف البيان وقرآن البلاغة “البيان والتبيين”، حيث قال:

“وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيها طبيعة، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويُشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تُهمل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوة القريحة، ويستبدَّ بها سوء العادة” (البيان والتبيين 1/ 175).

وختامًا، قال الشاعر:

وقلَّ من جدَّ في أمرٍ يؤمّله
واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر

أي: تحديد الهدف، ثم السعي الجاد لتحقيقه، ثم الصبر على ذلك، ويتحقق النجاح بإذن الله.

والله الموفق.

الخميس، 29 أكتوبر 2020

خبت يا رسامُ

(خبت يا رسامُ) 

 الله أكبر أيها الأقزامُ * خبتم وخاب السعي والإقدام
فرسولنا خير البرية صادق * ومصدق للمتقين إمام
كان الأمين الشهم أطهر نسمة * عرف الوجود ودينه الإسلام
يدعو إلى القرآن دعوة مشفق * شرب الأسى من أجلنا ويضام
وسعى إلى الرحمن سعية مؤمن *  في صبره تتحير الأفهام
والحلم فيه سجية وكرامة *
ملك الرقاب فدانت الأقوام
حتى عفى فرسولنا متواضع * شمس الحقيقة إذ بدا وسلام 
 ورسولنا بلغ الذرى في جوده * متعفف في ليله قوام
متزهد متخشع متذلل * يرجو النجاة ووجهه بسام
ورسولنا أرسى دعائم أمة * لا لن تهان وصحبه أعلام
فتحوا المشارق والمغارب عزة * تأبى الهوان فكُسرت أصنام
من ذا يغالط في حقيقة ديننا * فهو الدعي من الدعي لئام
دين يربي في النفوس مراحما * وعقيدة تزكو بها الأحلام
أنى يهان وربنا من فوقنا *
 كلا قدير ربنا علام
لكنما هي فتنة لتميزٍ * بين الصفوف فأينا المقدام؟!
ويح الدعي مجسدا لنبينا * صور التطرف خبت يا رسام
لا لن تنالوا من شريعة أحمد * هدي المحب له وضل طغام 
فلتخسؤوا زمر الضلالة والخنا * ولتشرقوا بالحقد يا لُوّام
فنفوسنا دون النبي رخيصة * نفديه حبا ركعٌ وقيام
نفدي صحابته ونفدي آله * ما دامت الأرواح والأنسام
ونودع الدنيا كراما إننا * لنموت حتى يبعث الإسلام!

شعر/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
الخميس - ١٤٤٢/٣/١٣.

بمناسبة:

الهجمة الهمجية الشرسة في فرنسا على رسولنا وسيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ حيث عرضت رسوم السخرية بسيد الأولين والآخرين، وقتل معلم كان يعرض شيئا من ذلك في فصله، ثم صرح رئيس فرنسا بأنها حرية تعبير، وأننا لن نعتذر عن هذه الرسوم الساخرة المشوهة لحقيقة هذا الرسول الخاتم الكريم - عليه أفضل صلاة وأتم تسليم -.

الجمعة، 18 سبتمبر 2020

يا عين هليها من الدمع شلال

(يا عين هليها من الدمع شلال) 

يا الله يا منشي سحابات وخيال
يا واهب الجنة عزيز الكمالِ
سبحانك الرب وجهك الدايم العال
تغفر ذنوب العبد تلطف بحالي
رحمتك يا ربي يا خير منزال
في جنة الفردوس عذب الظلال
وتغفر ذنوب الجد والعم والخال
أهل الشجاعة طيبين الخصالي
وام البنين الطيبة راعة الفال
بنت الاجاود مكرمين الرجالي
 ما غابت الذكرى ولو أقفت أجيال
قلب المعنا محتفظ بالوصالي
يا عين هليها من الدمع شلال
يا عين هلي واسهرنَّ الليالي

يتبع

شعر/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي
المدينة - حي الجابرة - السبت ١٤٤٢/٢/٢

وطن يسابق للعلا الأوطانا

(وطن يسابق للعلا الأوطانا)

وطن يسابق للعلا الأوطانا 
                          ويتيه فخرا بالرؤى جذلانا
ويحكم الوحيين لا من بدعة
                             ويقيم حق الله والميزانا
مذ وحد البطل المؤسس أرضها
                         عبدالعزيز وأحكم الأركانا
أسد يصول على العدا بضراوة
                        وبرشد عقل حطم الأوثانا
نشر السلام مجاهدا في أرضه
                      والشمل لم فرددوا الألحانا
وتيمموا نحو النخيل وطلعها
                         والبن يشتموه والريحانا
وتناسلت من بعده من بأسه
                       أسد المهيمن قوة وحنانا
حتى بلغنا ساحة الملك الذي
                       فل الحديد وأخمد النيرانا
سلمان يا هذا سليل أكارم 
                وشريف قوم يرتجي الرحمانا 
ومحمد شبل الأسود معاضد 
                     لأبيه بر وأكمل الإحسانا 
وتدوم يا بلدي بخير ولاية 
                   والشعب أوفى ذمة وأمانا
والخائن المأجور يكفي أنه
                    باع الديانة ذلة وهوانا
والله يغلب جمعهم يوم الوغى
                 برجال حق أيدوا القرآنا
وتناصروا دون الديانة أنفسا
        ترجو الجنان وترتجي الرضوانا
وتنازل الباغين في سكراتهم
                بفداء روح ألهبت أشجانا
وتفاخر العُرْبَ الكرام بمجدها
                 وطن يسابق للعلا الأوطانا

شعر/ أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي
المدينة المصطفوية - حي الجابرة - الثلاثاء - ١٤٤٢/١/٢٧
بمناسبة:
إقامة المجلس الثقافي لقبيلة المطارفة مسابقة شعرية، بمناسبة الذكرى التسعين لتوحيد المملكة العربية السعودية (اليوم الوطني ٩٠ للمملكة العربية السعودية).

السبت، 1 أغسطس 2020

وإن تعجب فعجب ١٣

(وإن تعجب فعجب ١٣)

من العجائب ما حدثني به من أثق به:
قصة من قصص الماضي القريب - قبل قرابة خمسين سنة - امرأة ليس لها رغبة في زوجها، تذهب إلى القاضي تطلب الخلع، يرفض الشيخ، ويصنجها - والصنج في اللغة: من صنج القوم: رد كلا إلى أصله - سبع سنوات لا يسمح لها بالخلع، يريدها تعود إلى زوجها، فإذا لم تعد، والزوج لم يطلقها؛ تبقى سبع سنوات أخرى، وهكذا، حتى تعود، أو يطلقها!

وهذا من أبين الظلم، ومن الخسة واللؤم؛ فما ذنب المرأة المسكينة أن تعامل بهذه الإهانة وهذا التسلط؟!

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وكتب/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي. 
الدوداء- المدينة- السبت- ١٤٤١/١٢/١١

الثلاثاء، 14 يوليو 2020

وإن تعجب فعجب ١٢

(وإن تعجب فعجب ١٢)

أعرف أحدا من أقاربنا من أرباب الدخل المتوسط - وهو ذو أعمال حرة -، كل عيد يخرج من جيبه ما تيسر؛ يوزعه على أولاده - ذكورا وإناثا - وكذلك أحفاده وأسباطه - والسبط: ولد البنت -.

العجيب ليس في هذا الموقف المعبر، ولكن عندما تقارن بين هذا الموقف ومواقف أخر كثيرة، أصحابها - ربما - أعلى منه دخلا، ولكن لا يقدمون ربع معشار ما يقدمه ذاك، صاحب الدخل المتوسط!

من هنا نتيقن أن ثمة سرا خفي عنا، ألا وهي (وجعلني مباركا أينما كنت) و (خيركم خيركم لأهله...) وكذلك (من لا يرحم؛ لا يُرحم) وأيضا (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وأيضا (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) وكذلك (وما تقدموا لأنفسكم من خيرا تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا)، وغيرها من الآيات والأحاديث، التي تبين جانبا مما ينبغي أن يكون عليه المسلم، وهو أن يتخلق بالأخلاق الحسنة، والشمائل الطيبة، ومن ذلكم أن يتصدق وأن يبذل من ماله - الذي في الحقيقة هو مال الله -، وأن يعلم أن بذله وتصدقه - خاصة على الأقربين -؛ هو صلة وصدقة ومروءة العربي الأصيل، وأنها من صفات الخيرية والرحمة، ومن أداء حق الله بشكره بالبذل والتصدق والرحمة، وأن من الناس من يكون مباركا نافعا لإخوانه المسلمين أينما حل وارتحل، ومن الناس من يكون جموعا منوعا، بخيلا شحيحا، قاسطا مضيعا لمن يعول، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
المدينة- الحمراء- الأربعاء ١٤٤١/١١/٢٤

الجمعة، 10 يوليو 2020

نداء الحق

(نداء الحق) 

صلى عليك الله يا بدرا سرى * فمحى بنور الحق كل ظلام
هو رِينا  هو حِبنا هو أنسنا * والصادق المصدوق خير إمام
لسنا نؤمل دون أحمد قدوة * والشانئون إلى لظى بزمام
أين المعادي نهجه وكتابه * أين المحقر شرعة الإسلام؟!
أين الألى قد عذبوا أصحابه * ورموا بكل نقيصة وشِتام؟!
وأتوا بكل قبيحة وجريئة *  وسعوا بإفك الزور والإعلام
هو شاعر هو ساحر هو كاهن * مجنون قوم في لجيج خصام!
هو أبتر... هو كاذب... أين النهى * من قبل كان مصدق الأقوام؟!
واليوم - سحقا - في ضلالة مارد * تصمون خير الخلق بالأوهام؟!
تتخبطون بشككم في غيكم * حتى أُذل الأنف بالإرغام
وعلت جموعَ الزيغ ألويةُ الهدى * الصادقون بعزمهم لأمام
الضاربون بعدلهم وجهادهم * النافحون عن الهدى بحسام
السامعون إلى الهدى بتواضع * والناشرون الخير بين أنام
المقسطون بحكمهم وقضائهم * الصائلون بهدأة الضرغام
العاملون بعلمهم وكتابهم * المخبتون إلى الهدى بخِطام
 والله أقسم غالبا في حقه * ورسوله في عزة وسلام
هذا نداء محمد ونجاتكم * وتجارة تربو مدى الأيام
هذا نداء الحق في صلواتنا * يجلو البصائر رغم كل قتام
صلى عليه إلهنا في عرشه * يحدو الأنام لطيب خير مقام

شعر/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
حارة المكيسر - الدوداء - المدينة - الجمعة ١٤٤١/١١/١٩

الثلاثاء، 7 يوليو 2020

الطريقة المثلى لتلقي تفسير القرآن الكريم؛ للعصيمي

(الطريقة المثلى لتلقي تفسير القرآن الكريم؛ للعصيمي)

١- مقدمة الكتاب، وتفسير الفاتحة.
٢- قصار المفصل، وأوله: سورة الضحى.
٣- أواسط المفصل، ومبدؤها: سورة النبأ.
٤- طوال المفصل، ومبدؤها: سورة ق.
٥- ربع يس، ومبدؤه: سورة يس.
٦- نصف الكهف، ومبدؤه: سورة الكهف.
٧- المئين، ومبدؤه: سورة التوبة.
٨- الطوال، ومبدؤها: سورة البقرة.

كتبه/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي. 
المدينة- الثلاثاء- ١٤٤١/١١/١٦

كيفية تلقي علم التفسير؛ للعصيمي

(كيفية تلقي علم التفسير؛ للشيخ/ صالح العصيمي)

١- العناية بكليات التفسير في الألفاظ.
والمتن المعتمد في ذلك: (حسن البيان في نظم مشتركات القرآن) للعلامة عبدالهادي الأبياري الأزهري.
٢- دراسة غريب القرآن.
والمتن المعتمد في ذلك: (تحفة الأريب فيما في القرآن من الغريب) لأبي حيان الأندلسي.
٣- دراسة كلمات القرآن.
والمتن المعتمد في ذلك: (كلمات القرآن، توضيح وبيان) لحسنين مخلوف.
ويقرأ معه: (التعقبات المفيدة على كتاب كلمات القرآن).
٤- دراسة الوجوه والنظائر.
والمتن المعتمد في ذلك: (نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر) لابن الجوزي.
وينتفع بكتب ابن فارس، لا سيما (مقاييس اللغة).
٥- معرفة هدايات السور.
ومن الكتب في ذلك: (مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور) للبقاعي، ويحتاج إلى تهذيب.
والمتن المعتمد في ذلك: (كلام ابن عاشور في تفسيره).
وهناك كتاب خرج اسمه (أغراض سور القرآن الكريم في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور)، فهذا هو المتن المعتمد.

من محاضرة للشيخ/ صالح العصيمي - حفظه الله ورعاه -، بعنوان: (كيفية تلقي علم التفسير).

كتبه/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي. 
طيبة الهدى والنور- الثلاثاء- ١٤٤١/١١/١٦

الأحد، 21 يونيو 2020

أنا أدري بها!

(أنا أدري بها!)

كان في السبعين من عمره، رجل من أشداء الرجال ضخامة في الجسم - مع صحة وعافية -، مرضت أمه مرض الموت - وقد زرتها، وهي عمتي -، كان من عادته - لما كانت في العناية المركزة لا تحس بمن حولها - أن يزورها كل يوم؛ يراها ويمسح جسمها أو أطرافها.

وفي يوم من الأيام؛ فاتته صلاة العصر، فاستيقظ وذهب من فوره لأمه؛ قيل له في الأول: إنها لا تدري بك، ولا تحس بك؛ قال: أنا أدري بها!

يا لها من كلمة لمن عقلها!
يا لها من حكمة لمن أخذها!
يا له من رجل موفق صالح ما خذلها!

إنها طباع الإنسان، ومروءة الرجال، وأصل أخلاق  العرب، حتى في البهائم والوحوش؛ فيا سحقا ويا بعدا لمن كفر نعمة ربه عليه بعقوق أمه وأبيه!

ومن الأسف البالغ أن يكون البر مما يستغرب في هذا الزمان! 
كتب/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
المدينة- الحمراء- الأحد ١٤٤١/١٠/٢٩

السبت، 20 يونيو 2020

الفرق بين الإزار والثوب في تطبيق سنة التشمير أو الإرخاء

(الفرق بين الإزار والثوب في تطبيق سنة التشمير أو الإرخاء)

الحمدالله... وبعد:

فقد ذكر الشيخ العلامة/ بكر بن عبدالله بن زيد - رحمه الله - في رسالته الصغيرة حجما، الكبيرة معنى وعلما، وهي (حد الثوب والأزرة في تحريم الإسبال ولباس الشهرة) ما يتعلق بأحكام الإسبال في الإزار والثوب، وفرق بينهما، وذكر حدودهما، وما هي السنة في ذلك.

وأنقل لك - أيها المبارك - هنا فائدة من هذه الرسالة، ألا وهي:

أن الشيخ - رحمه الله - بين حد القدر المستحب فيما ينزل إليه طرف الإزار من الساق، وهي ثلاث سنن عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

قال:

الحد الأول: إلى أنصاف الساقين.
والحد الثاني: إلى عضلة الساقين.
والحد الثالث: ما تحت نصف الساقين إلى الكعبين.

قال: هذا في الإزار، أما في الثوب أي: القميص فنصيبه منها السنة الثالثة، وهي من تحت نصف الساق إلى الكعبين، وهو مقرر في مذهب الحنابلة.

قال:  ولهذا فلا يسن تقصير الثوب إلى عضلة الساق، ولا إلى نصف الساق، وهذا بخلاف الإزار، إضافة إلى أن حسن الهيئة مطلب شرعي، فالإزار إلى عضلة الساق أو نصفه مع الرداء؛ لباس في غاية التناسب، وحسن اللبسة، وفي "الثوب" ليس كذلك، مع تأديته إلى كشف العورة.
والله - سبحانه - قد أمر بقدر زائد في الصلاة على ستر العورة؛ وهو أخذ الزينة، فقال سبحانه: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد).

قال: ولهذا - والله أعلم - فإن ألفاظ الروايات بجعل الإزار إلى عضلة الساقين أو إلى أنصاف الساقين؛ كلها بلفظ "الإزار"، ولم أقف على شيء منها بلفظ "الثوب"؛ فلنقف بالنص على لفظه ومورده، وأما فيما تحت نصف الساق؛ ففي بعض ألفاظها إطلاق، يشمل الإزار والثوب وغيرهما.

ونقل عن ابن عقيل - رحمه الله - : (لا ينبغي الخروج عن عادات الناس إلا في الحرام).

كتبه ملخصا/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة المطيبة- السبت ١٤٤١/١٠/٢٨.

الأربعاء، 10 يونيو 2020

عدم قبول النصيحة

(عدم قبول النصيحة)

الحمدلله، وأصلي وأسلم على خير الخلق محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد

كان بجانبي مصليا يقرأ بصوت خلف قراءة الإمام، ولما انقضت الصلاة، وهم بالقيام؛ وضعت يدي على فخذه، سلمت عليه، رأيت فيه سيما أهل الخير، فهو ذو لحية كثة بيضاء، وعمامته شبه مدارة على رأسه، وثوبه إلى أنصاف ساقيه، العجيب؛ لم يرد السلام، تلوت عليه الآية: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) يا عم: لا يجوز للمأموم أن يقرأ والإمام يقرأ؛ صدقوني؛ قام وتركني ولم يكلمني، وأظهر امتعاضه واستياءه!

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم... كان رد فعل أثار استغرابي، التفت إليه خلفي وهو يغادر المسجد، تذكرت - عندها - رسول الله محمدا - صلوات ربي وسلامه عليه -... شجوا وجهه، رموا سلى الجزور على كتفيه الطاهرين وهو ساجد عند الكعبة وهم يقهقهون ويضحكون بصوت عال!

تذكرته - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يعرض دعوته على أخواله في الطائف؛ فيغرون به سفهاءهم؛ ليلحقوه، فيدموا قدميه بالحجارة، وكان أشد ما وجد؛ فعفى عنهم وصفح!

تذكرت مواقف السيرة العطرة لخير الأولين والآخرين، وكيف وقع البلاء عليه، فما كان منه إلا الصبر، والصبر العظيم! 

قلت: هو مؤيد بالوحي من السماء، هو أمين أهل الأرض، هو الصادق المصدق، ومع ذلك ابتلي ابتلاء عظيما، وأنا؟ من أنا؟! أفلست مسلما؟ أفليس قدوتي هو؟ إذن (فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر). الغاشية.

وكتب/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي. 
المدينة- الأربعاء ١٤٤١/١٠/١٨

الثلاثاء، 9 يونيو 2020

نمط المعيشة المستعار

(نمط المعيشة المستعار) 

الحمدلله...

طرح أحد الفضلاء - وهو أستاذ اللغة العربية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المصطفوية، ومن جماعتنا - تساؤلا خطيرا، قائلا:

ليت شعري، لماذا نمط معيشتنا اليوم أغلبه مستعار؟!
لباسنا، أكلنا، أعراسنا، تخطيط بيوتنا، هل أقول: لغتنا؟!

فقلت - جوابا على تساؤله -:

لفتح الردم بين الشرق والغرب، وللهزيمة النفسية تجاه حضارة الغرب المادية الزائفة، ولهيمنة كثير من وسائل الإعلام المتفسخة من أخلاق العروبة قبل أخلاق الإسلام، ولضعف دور المصلحين في النهضة بالأمة المحمدية من غياهب الجهل، وسرادب الذل والمهانة والتبعية لكل ناعق ومزمر ومطبل!

وبالله التوفيق والسداد.

سطرها/

أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة الطيبة- الأربعاء ١٤٤١/١٠/١٨

السبت، 6 يونيو 2020

وإن تعجب فعجب ١١

(وإن تعجب فعجب ١١)

الحمدلله، وأصلي وأسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد

فإن من العجائب في زماننا هذا - وقد كثرت عجائب زماننا الأخير - ما يفعله البعض - أو لعله الكثير - من التصدق على الأبعدين، وترك الأقربين، أو على المتوفَين وترك الأحياء المحتاجين، وهذا - وربي - لهو من الخلل في المفاهيم، والتطفيف في الموازين!

 والعقل - قبل الشرع - يرشد إلى هذا؛ فالأقربون أولى بالمعروف والإحسان بكل صوره وأشكاله، وهو من أمارات إرادة الله بعبده خيرا؛ حيث يقيم ميزان الشرع ولو خالف هواه، وفي قصة مسطح وأبي بكر - رضي الله عنهما - عبرة للمعتبرين؛ حيث وقع مسطح في عائشة بقول الإفك، وكان فقيرا ينفق عليه الصديق؛ فقطع عنه النفقة؛ فنزلت الآية من السماء: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم).

وذلك أن الصديق - رضي الله عنه - حلف ألا ينفق على ابن خالته مسطح؛ فقال الله: (ولا يأتلِ) أي: لا يحلف؛ فقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي؛ فأعاد النفقة عليه.

وفي الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به). رواه الطبراني: 750، وإسناده حسن، وصححه الألباني.
وفيه نفي كمال الإيمان عمن هذا حاله.

والعربي الأصيل طبعه الكرم والجود والبذل، وكان الرجل منهم يسود فيهم ببذله وكرمه، وربما افتقر، كما كان عم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو طالب سيدا في قومه وهو فقير، حتى انقلبت الموازين بأخرة في الناس؛ فصار الرجل يسود فيهم بجمعه وكنزه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وخبر حاتم الطائي في كرمه مشهور، حتى أنه مرة عقر فرسه لضيفه لما لم يجد في بيته شيئا!

وليس مطلوبا من العبد المسلم أن يهلك ماله بالنفقة والصدقة، ولا يحسن به كذلك؛ بل يقبح به أن يشح به عن إنفاقه في وجوه الخير والبر والإحسان، والمعروف والإصلاح بين الناس، قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما). النساء.
وقال - جل ذكره - : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا). الإسراء.

ومن مداخل الشيطان على النفس - وقد حدث هذا معي - : أن يقذف في روعك لزوم وقوع الكمال، وإلا؛ فلا، فمثلا تقول لا بد أن أتصدق بكذا؛ وإلا؛ فلن أتصدق؛ بل الواجب التصدق والبذل بما في يد الإنسان وقدرته ولو قل؛ فإن النية تعظمه وتنميه، وربما حصلت بسببه المودة والألفة، وكان ذلك من أسباب الحجب والوقاية عن النار، فكما جاء في الحديث: (اتقوا النار، ولو بشق تمرة).

ثم ليُعلم - رحمني الله وإياك - أن الناس قد وضعوا لهم طرائق ورسوم ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ذلك: عدم فقههم لمعنى إقامة الصلاة، وكأنها تقام في المسجد وليس على المسلم من حرج كبير إذا خالف ما تلزم به الصلاة من المبادرة في الطاعات، والكف عن المعاصي والسيئات؛ مما أدى بكثير من المسلمين إلى النكوص على أعقابهم، فلا تجد من كثير منهم رحمة لجيرانه، أو صلة لأرحامه، أو إحسانا لفقير أو مسكين أو ضعيف أو محتاج، ويغفل عن كون ذلك من أعلى مراتب الإحسان؛ بل من أحب الأعمال إلى الله؛ فإن ذلك من أعمال النفع المتعدية؛ بل هو من صميم ديننا الحنيفي السمح، المستقيم الوسطي، وليس الإسلام منحصرا كما يظن الكثير في جلباب وشعر ومظاهر وشعائر؛ بل هو قيم مثلى، وأخلاق عليا، صفاء نفس، ورقة طبع، وقرب وبشاشة ولين. الإسلام كما أنه صلاة وزكاة وحج وجهاد؛ هو - أيضا - عدل وحقوق وواجبات، وكرم ونبل، ومروءة وفضل، وشهامة ورجولة.

وكتب/
أبو عبدالملك، عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
السبت ١٤٤١/١٠/١٤.

الاثنين، 1 يونيو 2020

الله أكبر يا مآذن رددي

(الله أكبر... يا مآذن رددي) 

 الله أكبر... يا مآذن رددي * ولتسمعي الأكوان شرع محمد!
ولتصدحي بالحق جهرا إنها * صرح الكرامة في رحاب المسجد!
هي منهج للسائرين إلى الهدى * ولواء عز المؤمنين بأحمد
هي نور حق شع في أرجائها * كبت الحسود وذل أنف الأرمد!
وبها نجاة العبد يوم قيامة * لله رب العالمين بمشهد
جمع الخلائق لا مفر وإنه * يوم التغابن بالحساب المرصد
يوم يشيب الولِد فيه لهوله * والسابقون إلى الجنان بمقعد
ولكم يعض الظالمون من الأسى * والنار تزفر غيظها بتوقد
والله يغضب لا يكلم إنه * رب العباد وناصر للسجد
يا رب أكرمنا وحقق سعينا * واشمل بلطف منك كل موحد
واجمع قلوب الناس يا رب الورى * وهداية تضفى على المتهجد
واقصم بعدل منك كل ضلالة * وارفع منار الدين شأن المسجد

شعر/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي
طيبة الهدى والنور- الاثنين ١٤٤١/١٠/٩

بمناسبة:

فتح المساجد في الثامن من شوال من العام ١٤٤١ بعد إغلاقها بسبب جائحة كورونا، ولله الحمد والمنة والفضل والإحسان.

الأحد، 31 مايو 2020

العودة للمساجد بعد إغلاقها بسبب جائحة كرونا

(العودة للمساجد بعد إغلاقها بسبب جائحة كرونا)

الحمدلله، وأصلي وأسلم على عبده ومصطفاه، ونبيه ومجتباه، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد

فإنه قد حل بالعالم داء فتاك، وبسببه شلت الحركة الاقتصادية، وتوقفت وسائل الشحن إلا ما ندر، وارتبك الساسة والسوقة، وكان الناس في هول مستطير، ومرض من مرض، وتوفي من توفي.

وفي الثامن من شوال من العام ١٤٤١؛ عاد الناس إلى مساجدهم، وفتحت أبواب المسجد النبوي الشريف

 عادوا بحذر وترقب، مستخدمين ما أرشدت إليه الجهات المختصة من الاحترازات الوقائية، من لبس الكمامة والقفازين، وأن يحضر معه سجادة خاصة به، وأن تكون المسافة بين المصلين مترين، وبين الصفين صف شاغر...

أقول: الأهم من ذلك هو أن تؤوب القلوب إلى ما يرضي علام الغيوب...

أن يعود الناس إلى الفطرة التي فطروا عليها...

أن يسعوا جاهدين في إرضاء باريهم - جل وتقدس -، وألا يلتفتوا إلى إرضاء الناس إذا كان على حساب سخط الجبار - جل جلاله -...

المهم: أن يعتبروا ويدكروا وينزجروا، وأن يحذروا أن يتعظ بهم غيرهم، وأن يكونوا عبرة للآخرين، فهذه إنذارات ربانية؛ يخوف الله بها عباده، ويريهم قدرته، كما يريهم رحمته... 

الأهم: أن يعودوا إلى صلة أرحامهم، والرحمة بمساكينهم، والإحسان إلى الجار... أن يعودوا إلى القول اللين، والخلق الهين... أن يصافحوا الملكوت العلوي بصفاء روحي، وطهر نفسي... أن يربؤوا بأنفسهم عن سفاسف الأمور وأراذلها، وأن يتحاشوا مجادلة السفهاء، والإقبال على من يخوضون في آيات الله مستهزئين كافرين بها...

الأهم: أن يتصلوا بالله على وجه الدوام، وألا تغرهم بهارج الدنيا، التي هي أنتن من جيفة حمار!

الأهم: أن تقوى رابطة الدين؛ فلا قومية ولا عصبية ولا جاهلية ولا قبلية ولا أحزاب ولا فرق ولا جماعات، إنما جماعة واحدة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة الصالح من الصحابة وتابعيهم من أصحاب القرون الثلاثة المفضلة؛ التي عناهم صلوات ربي وسلامه عليه بالخيرية، وأنهم خير الناس كما في الحديث الصحيح.

بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة المطيبة - الاثنين ١٤٤١/١٠/٩

الثلاثاء، 12 مايو 2020

لله أنت أبا غنى

(لله أنت أبا غنى) 

 (حسن)... يكاد الحسن منه يغارُ * والمجد والكرم الأصيل دثار
شهم تربى في رعاية جهبذ * فعليه من حلل الفخار وقار!
بر كريم محسن متعفف * سمح الخليقة.. عزمه بتار
بشراكم يا قومنا برجوعه * يزجي الفضائل... سيرة معطار
عشق التفوق مذ وعى من عمره *   حتى دنت بالفضل منه ثمار
لله در الشهم أضحى باسما * ثغر المهابة منه والإكبار
لله أنت (أبا غنى) من حازم * وأمين قوم... والكريمُ الجار
واليوم نسعد باللقا وتزاور * في طيبة... وهناك يحلو مزار
دار الحبيب المصطفى وصحابه * تلك النفوس الطاهرات كبار
دار الأحبة جئتها متفائلا * بالنقل بعد العشر... نعم الدار!
وأبوك ربي في الجنان يحله * منه الرضا... فيطيب منه قرار
والأهل أجمع والقرابة كلهم *
 فالقرب يسعد... والزمان يدار! 

شعر/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
الثلاثاء - طيبة الطيبة- ١٤٤١/٩/١٩


بمناسبة:
نقل الرائد/ حسن بن عطا الله بن عامر الصاعدي من الرياض بعد اثني عشرة سنة تقريبا من العمل إلى مسقط رأسه المدينة النبوية.
سمعت ذلك الخبر في يوم الثلاثاء في السحر، وكتبت هذه الأبيات.
وهو جار لنا، ولنعم الجار.

وإن تعجب فعجب ١٠

(وإن تعجب فعجب ١٠)

ومن العجائب في زماننا المتأخر هذا: ما يسعى له البعض - أو لعله الكثير - من محاولات تلو محاولات؛ لإذابة الفروق بين الطوائف والفرق والملل، فلا إنكار ولا تشنيع، وتأسف - أسفا بالغا - عندما يتقدم الصفوف أولئك ممن يدعون "المشيخة" أو تدعى لهم!

ظهر قبل يومين تقريبا صوت من هذه الأصوات، التي تنادي بأخوة السنة والشيعة، ما دام أنهم يستقبلون قبلة واحدة، ويحجون ويعتمرون، ويشهدون الشهادتين، ويأكلون ذبائحنا، واستدل بحديث في ذلك!

والرد على هذا الصوت المنادي بإذابة الولاء والبراء في نفوس المسلمين، يتلخص في الآتي:

أولا: الإسلام له شروط ونواقض، ومن نواقضه: الشرك.

وهذه نواقض الإسلام للإمام المجدد المصلح الكبير، الشيخ/ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، ذكر فيها عشرة نواقض، وهي في المستوى الأول من مستويات طالب العلم، بجمع وترتيب وتحقيق الشيخ، إمام المسجد النبوي الشريف، د/ عبدالمحسن القاسم، ويعلمها ويحفظها كل طالب علم مبتدئ!

ثانيا: لا بد من جمع الأدلة للنظر في قضية ما، أو مسألة ما، وهذا الشيخ - هداه الله - أخذ بدليل متشابه، وترك أدلة محكمة؛ فتأصيله للحكم على تلك المسألة؛ تأصيل ناقص غير محكم!

والواجب عليه أن ينطق بالحق، وأن يقول بأن الشيعة الذين يشركون بالله بأنواع من الشركيات؛ هم مشركون، وفيهم الشرك الأكبر والأصغر، وكتبهم طافحة بالعداوة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتحرض على قتل كل سني... الخ... وما نراه في العراق وسوريا ولبنان واليمن؛ لهو خير شاهد!

وأخيرا:
فمن يشهد الشهادتين، ويحج ويعتمر، وهو مع ذلك يكفر الصحابة، ويلعن الشيخين، ويتهم أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق الأكبر عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، وسائر الآل والصحب، ويقول بتحريف القرآن، وأن الأئمة يعلمون الغيب... من يعتقد تلك المعتقدات؛ فهو كافر مشرك نجس بلا أدنى ريب... وإن لم يكن ذلك كفرا وشركا؛ فلا والله ما في الدنيا كفر ولا شرك!


وكتبه/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
المدينة- الثلاثاء ١٤٤١/٩/١٩

ألا رباه لطفا بالعباد

(ألا رباه لطفا بالعباد)

ألا رباه لطفا بالعباد * فهذا الغرب ألحد في عناد
يبارز بالجحود إله حق * بهزء القول أسرف في فساد
ينادي للضلالة كل يوم * ويبرز لابسا ثوب الوداد!
فيردي في حبائله ألوفا * ويغوي بالجهالة كل غادي!
وهذا الشرق يتبعه بسخف * يقلد خطوه ذل انقياد!
يصافح بالمهانة ألف رجس * ويوغل في القذارة باجتهاد!
ولا يصحو إذا الأقوام جدت * خفيف العقل ند للرشاد
يعادي بالرذيلة كل طهر * ويرقص خانعا رغم التناد!
إله الغرب أبهره غرورا * فنكس رأسه في كل وادي!
يغني بالبطولة ويح قومي * وما نهضت بنوه إلى سداد!
يمني نفسه نيلا لمجد * برغم من أساه ومن رقاد!
ألا ويح العروبة ويح قومي *  وويح النفس من عز المعادي
ألا فارحم عبادك يا إلهي * ولطفا سابغا كل البلادي
وعجل بالمسرة قبل عيد * بلم الشمل يشدو كل حادي!

شعر/ أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
حارة المكيسر- المدينة- السبت ١٤٤١/٩/١٦

الأربعاء، 29 أبريل 2020

وإن تعجب فعجب ٩

(وإن تعجب فعجب ٩)

ومن العجائب في زماننا هذا: ما تبثه وسائل إعلام - معروف عداؤها للدين - من شبهات وشبهات، والعجب ليس في هذا؛ بل في من تستخدمه تلك القنوات؛ لبث البلبة في أفكار وعقول أبناء المجتمع المسلم، المتدين بطبيعته وفطرته، فيظهر - بين الفينة والأخرى - من يلبس لباسا ليس له، فيفتات على أهل العلم الراسخين، يتقدمهم بالفتوى في مسائل فقهية فرعية، ويبث شبهاته عبر تلك القنوات الفاسدة المفسدة، التي يصدق عليها قول الحق - تبارك وتعالى -: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما). النساء.

أقول: والرجل ليس من أرباب الإفتاء؛ بل هو من الدخلاء فيه.

أعلم أن هذه من المسائل الخلافية، ولكن من قال أن الخلاف من الأدلة التي يستدل بها؟

إن الأدلة المجمع عليها هي: الكتاب والسنة والإجماع.

ولا يليق بصاحب دعوة وسنة أن يلج هذا الباب؛ بدعوى التقليد، وأنها ليست فتوى!

لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركن لأقوال الرجال، وأن يستدل بها، فالرجال يعرفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال!

وإن من عجائب زماننا هذا: تغييب قضايا الأمة المصيرية الكبرى، وإشغالها بالمسائل الفرعية (قضايا المرأة، قوامة الرجل على المرأة، الغناء، الموسيقى... الخ)، حتى ينشأ جيل تافه ساقط لاقط، لا يرفع للفضيلة رأسا، ولا يبدي للدين حمية ونصرا، يأخذ بالمتشابه، ويضربه بالمحكم، ويتتبع الرخص، وشواذ الأقوال، وقديما قيل: من تتبع الرخص؛ فقد تزندق، أي: خرج من الدين!

كان الواجب على صاحب الدين والسنة تعظيم الأدلة لا الرجال، وحفظ نفسه من الولوغ في مستنقع الشهرة البائس؛ إذا كان على حساب الدين والفضيلة!

ويدندنون حول سمت أهل العلم، وأنه ينبغي لهم أن يندمجوا في المجتمع، فيلبسوا لباسهم، ويتحدثوا بطريقتهم، يعني إذابة الفوارق بين العالم والجاهل، وهذا في الشرع والعقل لا يستقيم.

كل ذلك يجري على أيدي هؤلاء، ممن يدعون الانتساب لطلبة العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة المطيبة- الخميس ١٤٤١/٩/٧

الأحد، 26 أبريل 2020

التطرف ليس محصورا في الغلو

(التطرف ليس محصورا في الغلو) 

الحمدالله، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، بعد

فإن الفساد نوعان: فساد حسي وفساد معنوي.

وثمة مكر كبار من أعداء الملة والدين في ترسيخ أفكار مضادة للدين في عقول الناشئة والدهماء، وذلك من مثل كون التطرف منحصرا في جانب واحد، وهو الغلو في الدين، والتنطع والتشدد؛ تنفيرا للناس من هذا الدين العظيم.

وهذا من جنس ما جاء به سحرة فرعون، باطل من أصله، وهو زاهق لا محالة بالحق الذي مع المؤمنين.

وكل يعلم أن التطرف ليس مقصورا في طرف واحد؛ بل هو طرفان، غلو وجفاء، إفراط وتفريط، وأن الوسطية هي في هذا الدين الحنيف.

ومن الأسف البالغ أن ينقد المفسدون المتشددون الغالون المتنطعون في الدين، وأن يغض الطرف عن أولئك المبعدين المفسدين لأديان الناس وأخلاقهم، المستهزئين بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الطاعنين في حملة العلم والشريعة المطهرة، المعلنين للرذيلة، المحاربين للفضيلة.

بقلم/

أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
الأحد- المدينة ١٤٤١/٩/٣

السبت، 18 أبريل 2020

سنة الله في المترفين

(سنة الله في المترفين)

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد:

فإن لله عز وجل سننا لا تتغير ولا تتبدل، كسنة الجزاء من جنس العمل، وسنة الأسباب والكسب، فمثلا: في هذه الدنيا من يعمل، ويطرق أبواب الرزق؛ فسيجد ما قدره الله له، وكتبه وقسمه عنده في كتاب، بغض النظر عن ديانة هذا العامل ومعتقده، سنة من سنن الله جارية، وهذا ما نراه مشاهدا في واقعنا الإنساني والحيواني بعامة. والنصوص من كتاب وسنة متظافرة في بيان ذلك؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له). وفي القرآن: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون). التوبة.

إذا علمنا هذا؛ فإن قلوبنا تتفطر دما وأسفا على ما يجري لأمتنا الغراء من نكبات تلو نكبات؛ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفكر، وقبل ذلك في الدين!

من يصدق أن هناك من تسيل دموعه لخسارة فريق كروي يهيم به في أودية العشق؟!

من يصدق أن هناك نفوسا تكاد تقطع من الشوق أو الحزن أو البكاء عند سماعها أغنية من مطرب أو مطربة؟!

من يصدق أن جيلا يمسخ، وعقيدة باطلة ترسخ، ومبادئ وقيم تهدم من أساسها؛ بفعل أذناب الغرب، وخدام الماسونية العفنة، في إعلام المنافقين والدجالين؟!

حتى خرج لنا جيل مترف مرفه، رخو هش ضعيف، لا يقوم بواجب، ولا يرفع بأمته رأسا، قطع انتماءه، وهجر قرآنه، وأعرض عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وشايع الكفرة؛ إعجابا بهم وتقديرا لهم، وشجعهم في نواديهم، وصرف لهم من جيبه - وإن كان لا يملك ريالا! -.

هذا الجيل الجديد الممسوخ، الذي يراد للأمة أن تكون في قابل أيامها مثل ما وصل إليه وأشد، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!

كل هذا بسبب مخالفة الفطرة، فالرجال يتشبهون بالنساء، والنساء يسترجلون، قد انعكست المفاهيم، وانقلبت القيم، وقلبت الفطرة، فرفضت؛ بل واستنكر على من يتحلى بها، وينسب للتشدد والتنطع، وكرم الفاسق والمنافق، وكان يجب أن يعلى شأن أهل الدين، وأن يكبت المنافقون والفاسقون المجاهرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

فكان الجزاء من جنس العمل، أن بلينا بهذا الضعف والخور، فكثرت المظالم، وفشى العقوق وتقطيع الأرحام وهجر الأقارب، وضربت القلوب بعضها ببعض، وسلط بعضنا على بعض، وخولف بين قلوبنا؛ جزاء وفاقا، ولا يظلم ربك أحدا، ونسأل الله ألا يؤاخذنا بذنوبنا، ولا بما فعل السفهاء منا؛ فإن الله يغار ويغضب، وأخذه أليم، وعقابه شديد، يعم الجميع بعقوبته وعذابه ونكاله إذا لم يقم المصلحون بدورهم؛ كما قال تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). هود.
وقال: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) بعدها بآيات، آيات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!

والأمة الخير فيها إلى قيام الساعة بلا ريب، ولكن نظرة تطل بها على هذا الجيل والجيل السابق؛ تعرف مدى الخطر الذي وصلنا إليه، والهوة السحيقة التي تردينا فيها؛ لعوامل ومتغيرات طرأت، من أهمها هذه الوسائل التقنية، ووسائل الإعلام المختلفة؛ حيث فتحت الدنيا على الناس، وللأسف أقول: إن المسلمين هم الأغلب الذين يتلقفون تلك الثقافات الدخيلة، في حين أن كثيرا من المجتمعات لا تقبل إطلاقا بتصدير ثقافة دخيلة عليها! والله حسبنا ونعم الوكيل. 

بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
المدينة، الأحد ١٤٤١/٨/٢٦

الخميس، 2 أبريل 2020

إليك نفزع

(إليك نفزع)

 باسم الإله عظيم القدر بارينا * ثم الصلاة على المختار هادينا
إليك نفزع يا مولاي من قلق * ومن إياس ومن ضر لتنجينا
أنت الحسيب إلهي جل مرحمة * أنت الرقيب وكافي من يعادينا
أنت المهيمن بر لا شريك له * أنت الحليم وعفو منك يدنينا
أنت الرؤوف سلام جل خالقنا * عزيز ذات رحيم بالمصلينا
أنت المدبر للأكوان خالقنا * وباعث الناس يوم الحشر تحيينا
أنت القدير وذو سمع وذو بصر * أنت الجواد وما خابت أمانينا
نحن الضعاف وأنت الله ذو كرم * تجود بالستر من إلاك يغنينا؟!
فهب لنا يا إله العرش مغفرة * تمحو بها ما كان يؤذينا
ولا تأخذ إلهي الناس في دعة * وبالإحسان والألطاف تبقينا
ويا قومي إلى الجنات فاستبقوا * ولا حلم من الرحمن يطغينا
ولا لهو بهذي الدار يفتننا * عن الأخرى فنردى حين يلهينا
حذار الأمن لا نغتر في سفه * ولا قنوط ولا كفران لاهينا
 وصل رب على المختار ما سطعت * شمس النهار وغابت في دياجينا

شعر الفقير إلى ربه القدير/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة النور- الخميس ١٤٤١/٨/٩

الأربعاء، 1 أبريل 2020

طالب العلم... بين الضبط والتحقيق؛ لمشاري الشثري


07‏/10‏/2015

(طالبُ العلم .. بين الضبط والتحقيق) - للشيخ/ مشاري الشثري



طالبُ العلم .. بين الضبط والتحقيق


يمكن القول بأنَّ العلم لم يبقَ فيه مزيدٌ لم يُقَلْ إلَّا ما تعلَّق به من خارجٍ، من مناهج فهمه وطرق تقديمه والتخريج على ما تقرَّر من أصوله، فإن أهل العلم على مرِّ القرون وتعاقب الحقب قد عُنُوا بالعلم تأصيلًا وتفريعًا، فلم يذروا لمن تأخر شيئًا يمكنه القيام به إلَّا أن يُحكِم التعامل مع ما وضعوه، ويفتنَّ في الإفادة مما حصَّلوه.

وإذا قيل بأنَّ هذا من أوضار المقالة الزائفة: "ما ترك الأوَّلُ للآخِر شيئًا"، وأنَّ الناس قد جاوزوها إلى: "كم ترك الأول للآخِر" = كان هذا من القائل ذهولًا عن حقيقة تلك المقالة، وذلك أنَّك لا ترى أحدًا من العلماء يأتي بها إلا وهو على درايةٍ تامَّةٍ بأنَّ أهل القرون الأولى قد أوفوا على الغاية في كلِّ علمٍ، وإلَّا لأمكن أن يكون في المتأخرين من يستبدُّ بعلمٍ لم ينله مجموع المتقدمين، وهذا إن حصل فالعمل جارٍ على رفضه لا قبوله.

وإذًا:

فمعاني الوحي: قد اكتملت بموت النبي صلى الله عليه وسلم.

والعلومُ الخادمةُ للوحي: قد تكامل تأسيسُها في الطبقات المبكرة، فلم يبقَ لمن بعدهم منها شيء، لا لنقصٍ فيهم، بل لأنَّ اكتمالَها أمرٌ طَبَعيٌّ، حيث إنَّ الأولين قد وجدوا العلمَ مفرقًا مبثوثًا فجمعوه وأصَّلوه على غير مثال سبق، فلا يمكن لمن تأخَّرَ أن يعيد من حال التفرق السالف ليبتكر تأسيسًا جديدًا.

فلم يبقَ إلا إغناء ذلك التأسيس بكشف أبعاده، وتوسيع دوائر الإفادة منه، وإقامة قواعد فهمه واستثماره والتخريج عليه، وهذا مجالٌ للإبداع رحْبٌ، وطريقٌ للابتكار واسعٌ.

وطالب العلم إذا استحضر ذلك توفَّرَ همُّه على البَصَر بالإرث الذي خلَّفه أسلافه، مميِّزًا بين مراتبه، مدركًا لوظائفِه وغاياتِه.
*****


إذا تقرَّر هذا، فإنَّ لتحصيل هذا العلم الموروث مقاصدَ، من أجلِّها مقصِدَين متى استحضرهما الطالب وجدَّ في التضلُّع منهما تفحَّلَ علمُه، وبلغَ الرشدَ في التعامل مع العلوم المدوَّنة، ليكون من بعدُ مؤهَّلًا لإغنائها وإثارة دفائنها، وهذان المقصِدَان هما: (الضبط والتحقيق). 

فالضبطُ: لمقدِّماتِ ونتائجِ تلك العلوم.
والتحقيقُ: لتحريرِها والوقوفِ على أغوارها ومقاصدها.

ولكلٍّ من هذين المقصِدَين ذرائعُ يتوسَّلُ بها الطالب للوصول إلى مبتغاه منهما، وكثيرٌ من الكتَّاب في مناهج التحصيل قد أوسعوا القول في مقصد الضبط، ووضعوا له من الوسائل والمناهج ما يعين طالب العلم على تحصيله، إلَّا أنَّ الكلام في سُبُل تحقيق العلم وتحريره كان دون ذلك، وهذا من أسباب ضمور الوعي حول فضيلة تحقيق العلم، ما جعل كثيرًا من الطلبة يُعنونَ بضبط العلم أضعافَ عنايتهم بتحقيقه وتحريره، ولئن كان ضبطُ العلم أولَ مدارج التحقيق فيه، إلَّا أنَّ الغفلةَ عن هذا المقصد وعدمَ الجدِّ والسعيِ في تحصيله قعد بجمهور الطلبة المتمكنين عن بلوغه، ولستَ ترى في عيوب طلبة العلم عيبًا يحرق فؤاد المراقب للبيئات العلمية (كنقص القادرين على التمام).

وسأقتصر في هذه الورقة على وسيلةٍ واحدةٍ من وسائل تحقيق مقصِدَي الضبط والتحقيق، وهي وسيلة "التأصيل المرجعي" .. وفرقٌ بين "التأصيل المرجعي" و "التأصيل المنهجي".

فالمنهجيُّ: أن يكون للطالب في كلِّ مقصِدٍ منهجٌ مؤصَّلٌ وخطةٌ مرسومةٌ.
أمَّا التأصيلُ المرجعيُّ: فأن يتخذ الطالب من كتابٍ/مرجعٍ مَّا أصلًا له .. وعليه.

فإذا كان الحديث شاملًا لمقصِدَين، فعلى طالب العلم أن يتَّخذ له "أصلين مرجعيين":

أحدهما أصلٌ مرجعيٌّ للضبط، وذلك بأن يكون لطالب العلم في كلِّ علمٍ أصلٌ يفيدُه الاحتواءَ على مجامع ذلك العلم ومبانيه، يضبط به مسائله ودلائله، ويقيِّد على حواشيه ما ظفر به من الفوائد من كتابٍ أو درسٍ أو سانحِ خاطرٍ وبارحِه، ومن جرَّب أن يتَّخذَ كتابًا يعتمده أصلًا علميًّا له في علمٍ ما - وكان هذا الكتاب لائقًا بأن يكون أصلًا - ذاق حلاوة الضبط .. غير أنَّ الاقتصار على أصلٍ للضبط في أيِّ علمٍ لا يمكِّن طالبَ العلم من النبوغ فيه، ولا يُزجِي له القدرة على الابتكار في تناول مسائله.

ومن هنا يتأكَّد على طالب العلم أن يكون له أصلٌ مرجعيٌّ للتحقيق، وهذا الأصلُ - كما هو بيِّنٌ من السياق - ليس بديلًا لأصل الضبط، بل هو قرينٌ له، ولا غناءَ لطالب العلم عنهما، فلكلٍّ منهما مقصدٌ لا يتمُّ بناء الطالب حتى يبلغ الغاية منهما.

ولتحقيق موازنةٍ حيثيَّةٍ مقارِبةٍ بين هذين الأصلينِ المرجعيَّينِ، موازنةٍ تستبين بها حقيقتهما = يُنظَر في خمسِ حيثيَّاتٍ:

1. من حيث الوظيفة:
أصلُ الضبط يُراد منه أن يكون وسيلةً لضبط مسائل العلم - فإن تضمَّن عُمَدَ دلائله كان هذا كمالًا -، ويُرادُ منه أن يكون مَجمَعًا لكلِّ ما يَعرِض لطالب العلم من فوائدَ وتنبيهاتٍ على مرِّ سنين طلبه.

أمَّا أصلُ التحقيق فيُراد منه أن يرتاض الطالب بمسالك تحقيق مسائل العلم، وتحرير دلائلها، من خلال نصوصه العالية، وتحريرات المحققين فيه.

2. من حيث المضمون:
أصلُ الضبط في كل فنٍّ لا بُدَّ أن يكون محتويًا على خلاصاتٍ مركَّزةٍ لنتاج علماء ذلك الفن، ومن هنا كان من شرط أصل الضبط أن يكون متأخِّرًا نسبيًّا، لأن كتب المتأخِّرين استحوذت على غالب أصول مسائل المتقدمين مع ترتيبها واختصارها، وهذا لا تكاد تجدُه في الكتب المتقدمة.

أمَّا أصلُ التحقيق فلا يُشترَطُ فيه أن يحتوي على خلاصاتٍ مركَّزةٍ تجمع نتائج العلم، إذ ليس الغرضُ منه ضبطَ المسائل وجمعَها، بل شرطُهُ أن تكون مادَّتُه عاليةً محقَّقةً تمرِّنُ قارئها على تحقيق المسائل وتحريرها، من خلال نصوصه العالية المتقدمة - إن كان الكتاب متقدمًا - أو من خلال موازناته المحرَّرة بين اتجاهات العلماء، ونحو ذلك.

فإن كان هذا الكتاب من الكتب المتقدِّمة كان أحرى باتخاذه أصلًا، ثم إن كان هذا الكتاب المتقدم من (الكتب المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة) بلغ الغاية في هذا الباب، (فإنَّا نجد أربابها قد سبقوا في فصولٍ منها إلى ضروبٍ من اللفظ والنظم أعْيى من بعدهم أن يطلبوا مثله، أو يجيئوا بشبيه له)[1].

3. من حيث الحجم:
أصلُ الضبط غالبًا ما يكونُ كتابًا مختصَرًا أو متوسِّطًا، ولا يليقُ به أن يكون مبسوطًا، لأنَّ الغرض منه أن يحيط به الطالب إحاطةً تامَّةً، فإذا كان مبسوطًا تعذَّرَ الوصول لهذا الغرض.

أمَّا أصلُ التحقيق فغالبًا ما يكونُ كتابًا متوسِّطًا أو مبسوطًا، ولا يليقُ به أن يكون مختصرًا على شاكلة المتون، ولو كان من الكتب المتقدِّمة، لأن الغرض منه أن يكون معمل تدريب وتمرين للطالب على التحقيق، وهذا لا يتحقق بالكتب المختصرة.

وهذا الشرط المتعلق بالحجم شرطٌ تقريبيٌّ، له طرفان ووسط، فطرفاه (الاختصار، والبسط) ووسطه (التوسط)، وكلُّ وسط ففيه إجمالٌ، وإجماله هنا يُبيَّن برعاية بقية الحيثيات، فإذا جعلنا "الكتاب المتوسط" صالحًا لأن يكون أصلًا للضبط وأصلًا للتحقيق، فلسنا نعني به شيئًا واحدًا، بل القصد أنه ليس بمختصر ولا مبسوط، وهذه المساحة فسيحة، أدناها في جانب الضبط، وأعلاها في جانب التحقيق، وما بينهما بينَ بينَ، والمحكم هنا أن لا يكونَ أصلُ الضبطِ مبسوطًا، وأن لا يكونَ أصلُ التحقيقِ مختصرًا، وبالأمثلة اللآتي ذكرها يتبين القصد.

4. من حيث التأثير:
أصلُ الضبط لا يُشترَط فيه التأثير، بل يشترط فيه أن يكون جامعًا للمسائل، كما لا يُشتَرَطُ فيه أن يكون محلَّ عناية العلماء، وإن كان هذا من كماله.

أمَّا أصلُ التحقيق فلا بُدَّ أن يكون مؤثِّرًا، وتأثيره بأن يكونَ مؤسِّسًا لعلمٍ، أو يكونَ أصلًا لاتجاه، أو يكونَ محلَّ درس العلماء وفحصهم، أو كان مدارَ كتبٍ وشروحٍ وُضِعَت عليه واعتراضاتٍ وُجِّهَت إليه، ونحو ذلك.

5. من حيث التعدد:
يمكن لطالب العلم أن يتَّخذَ له في كلِّ علمٍ أصلًا للضبط، أمَّا أصل التحقيق فالعمر يقصر دون اتخاذه في كل علمٍ، لأن أصل الضبط تتحقَّق وظيفته بتكرار قراءته وإدمان النظر والتأمُّل فيه، وهذا القدر وإن كان عسيرًا إلَّا أنه من الممكن تحقيقه لأنَّا جعلنا من خاصَّة هذا الأصل ألَّا يكون مبسوطًا.

أمَّا أصل التحقيق فعامل الزمن هو المؤثِّر الأصيل فيه، بمعنى أن ثمرته ووظيفته إنما تُنال بالعيش معه، والتدسُّس في أعطافه، فليس الغرضُ منه الوصولَ إلى المعلومة وتصوُّرَها وحفظَها، بل التغلغل في بواطنها والحفر إلى أصول جذورها، وهذا يحتاج إلى أزمنة متطاولة، ولذا كان اتِّخاذ أصلٍ للتحقيق في كل علمٍ متعذِّرًا، فالسبيل أن يَتَّخذَ طالب العلم أصلًا للتحقيق في علمٍ أو علمين، يكونان محلَّ تخصصه وتركيزه، ومع ذلك فهذا لا يعني انفكاكه عن جزءٍ من التحقيق في سائر العلوم، فلتكن له إلى كلِّ علمٍ زوراتٌ راتبةٌ إلى كتبه المفصَّلة، متأمِّلًا في بعض أبحاثها، ودارسًا لجملةٍ من مسائلها.


*****

ولتقريب المراد أضرب أمثلة مجملة في جملة من العلوم لأصول في الضبط التحقيق روعيت فيها هذه الحيثيات، ثم أشفعها بمثالينِ مفصَّلينِ لمزيد بيانٍ لفكرة الأصل المرجعي:


(1) أمثلة مجملة:

ففي الفقه:

من أصول الضبط:
- "الاختيار لتعليل المختار" في فقه الحنفية
- "شرح الدردير على مختصر خليل" في فقه المالكية
- "شرح المحلي على المنهاج" في فقه الشافعية
- "الروض المربع شرح زاد المستقنع" في فقه الحنابلة ..
أو المتونُ مجرَّدةً من هذه الشروح.

ومن أصول التحقيق:
- "شرح مختصر الطحاوي" للجصَّاص
- "مدونة سحنون"
- "الأم" للشافعي
- "نهاية المطلب" للجويني
- "المغني" لابن قدامة.

وفي أصول الفقه:
من أصول الضبط:
- "شرح المحلي على جمع الجوامع"
- "شرح الكوكب المنير" لابن النجَّار ..
أو المتون مجرَّدةً من هذه الشروح.

ومن أصول التحقيق:
- "الرسالة" للشافعي
- "الفصول" للجصَّاص
- "البرهان" للجويني.

وفي التفسير:
من أصول الضبط:
- "تفسير الجلالين"
- "تفسير البيضاوي"
- "التسهيل" لابن جزي.

ومن أصول التحقيق:
- "تفسير الطبري"، وهو أمثلُ الكتب الصالحة للتحقيق في هذا العلم.

وفي النحو:
من أصول الضبط:
- "شرح الأشموني على ألفية ابن مالك"
- "التصريح بمضمون التوضيح" للأزهري ..
أو المتون مجرَّدةً من هذه الشروح.

ومن أصول التحقيق:
- "الكتاب" لسيبويه
- "المقتضب" للمبرد
- "التذييل والتكميل" لأبي حيان.

وكتاب سيبويه أعظمُ مثالٍ لأصول التحقيق المستجمعة للشروط، فقد استوفى الجمْعَ والتفصيلَ والتأثيرَ، مع كونه كتابًا متقدِّمًا، مؤسِّسًا.

وفي البلاغة:
من أصول الضبط:
- "مختصر المعاني (شرح تلخيص المفتاح)" للتفتازاني
- "شرح عقود الجمان" للسيوطي ..
أو المتون مجرَّدةً من هذه الشروح.

ومن أصول التحقيق:
- "أسرار البلاغة" للجرجاني، وهو أمثلُ الكتب الصالحة للتحقيق في هذا العلم.

وفي متن اللغة:
من أصول الضبط:
- "مختار الصحاح" للرازي
- "المصباح المنير" للفيومي.

ومن أصول التحقيق:
- "تهذيب اللغة" للأزهري
- "لسان العرب" لابن منظور.




(2) مثالان مفصَّلان:

أمَّا المثال الأول: ففي علم (أصول الفقه)، وقد ضربت من أمثلة ذلك "شرح المحلي على جمع الجوامع" أصلًا للضبط، و"البرهان" للجويني أصلًا للتحقيق.

فـ "جمع الجوامع" متنٌ أصوليٌّ مختصرٌ متأخِّرٌ، جمع فيه السبكي من زهاء مئةِ مصنَّفٍ أصولَ مسائل علم الأصول مجرَّدةً من أدلتها، مع العناية بالخلاف الأصولي في غالب المسائل، وعزو الأقوال لقائليها، و"شرحُ المحلي" عليه شرحٌ ممزوجٌ مختصرٌ، عُني بحل ضمائر الجمع وإبراز دفائنه، مع البرهنة لمسائله، وقد عُنِي العلماء بالمتن والشرح، فنَظَمَ المتنَ غيرُ واحد، وشرحه كثير من العلماء، كما اختصره بعضهم، وعلى "شرح المحلي" وُضِعت حواشٍ، كما اختصره بعضهم.

و"البرهان" للجويني يُعَدُّ من الكتب الأصولية المتقدمة، وهو من عُمد الأصول التي كانت محلَّ عنايةِ العلماء واستمدادهم، وهو كتاب فيه نشرٌ للمسائل وأدلتها، مع آلة اجتهادية عالية انبسطت آثارها من أول الكتاب إلى آخره، وكان هذا الكتاب يُنعَت بـ (لغز الأمة)، لوعورةٍ فيه، ولذا لم يتصدَّ له من الشراح إلَّا القليل، ولم يقتصر الجويني على جمع المسائل بأدلتها، بل عُنِي فيها بتحرير العلم نفسه، ومناقشة مقررات أقطابه، وشمل عطاؤه العلمي ما يتعلق بتحقيق المسائل، والأقوال، تصورًا وثبوتًا، برهنةً وتزييفًا، كما لم يقتصر فيه على مذهب الشافعي الذي ينتحله، بل ركب فيه مطيَّة الاجتهاد، وكانت منه المذاهبُ كلُّها على صفيحٍ واحدٍ.

هذا استعراضٌ موجَزٌ لطبيعة هذين الأصلين يتبين به سببُ اتِّخاذِ كلٍّ منهما أصلًا، فإذا استبان ذلك لم يبقَ إلا بيان كيفية تعامل الطالب معهما، فيُقال:

"شرح المحلي" لما كان أصلًا للضبط فإنَّ على الطالب أن يطلب منه ما يُضبَطُ لا ما يُحقَّقُ، فيُعنى بالمسائل والدلائل دون بحثٍ في جذورها ومناطق التأثر والتأثير فيها، فإذا راجعَ غيرَ "شرح المحلي" من شروح "الجمع"، فهو إنما يطلب منها ما يتعلق بسلامة تصور المسائل واستيفاء القيود ونحوها مما يُحكِم به الطالب ضبطَ المسائل، وكلَّما عَرَضت له في الكتب الأصولية ما يتعلَّق بهذا الجنس من المعارف ألحقها بنظائرها من "شرح المحلي"، لتكون من جملة ما يكرره ويضبطه.

أما "البرهان" فلكونه أصلًا للتحقيق فالطالب يتعامل معه بتأنٍّ بالغٍ وتريُّثٍ شديدٍ، فهو ينتقل من ظواهر الكتاب إلى بواطنه، يطلب من مجموع الكتاب نظريةً في العلم، ومنهجًا في رسم المسائل، وطريقة في تحرير الدلائل، ويبحث في كل مسألة عن أثرِها وتأثُّرِها، أثرِها في مسائل الأصول والكتب المصنفة فيه، وتأثُّرها بهما، ويقف مع موازنات الجويني وقوفًا طويلًا ليدرك أصول المدارك والمآخذ، وينظر في طبيعة تعامل الجويني مع الخلاف الأصولي والنصوص الأصولية، كما ينظر في محالِّ النقد التي تلقَّاها كتابه من خلال شرَّاحه أو ما تفرق في كتب الأصول، وأيضًا ينظر في النقد الذي وجَّهه الجويني إلى غيره من الأئمة والأصوليين فيعقد الطالبُ لذلك مجالسَ موازنةٍ مفصَّلةٍ تتناول تصور الاعتراض وصحة توجيهه، ويتَّتبَعُ أدوات الجويني في تحقيق المسائل الأصولية ونقدها وطريقته في تفعيلها .. فمنهج "البرهان"، ومسائله، ودلائله، ونقداته، وأدواته، ومشكلاته = كلُّها تقع في محلِّ البحث والنظر عند الطالب المحقق.



أمَّا المثال الثاني: ففي (علم النحو)، وقد ضربت من أمثلة ذلك "شرح الأشموني على ألفية ابن مالك" أصلًا للضبط، و"كتاب سيبويه" أصلًا للتحقيق.

فـ "ألفية ابن مالك" متنٌ نحويٌّ متأخِّرٌ، تضمُّ خلاصاتٍ مركزةً للمسائل النحوية في جُلِّ الأبواب، مع جملة صالحة من تصريف الأسماء، مع إشاراتٍ إلى الخلاف والأدلة، والعناية بصياغةِ قواعدَ وشروطٍ وتقسيماتٍ في عباراتٍ وجيزةٍ ظاهرةٍ أو أمثلةٍ وإشاراتٍ خفيَّة، و "شَرْحُ الأشموني" شرحٌ متوسِّطٌ ممزوجٌ، حلَّ فيه مرموزات الألفية وضمائرَها، واستشهد لأحكامها، مع تنبيهاتٍ ولطائفَ أودعها كتابَه وحلَّى بها شرحَه.

أما "كتاب سيبويه" فهو الكتابُ المؤسِّسُ لعلم النحو، ضمَّنه القول في النحو والتصريف، مع استعراضٍ واسعٍ لشواهد العربية وما عليه لغة العرب من شعرٍ ونثرٍ، سماعٍ وقياسٍ، باستقراء واسعٍ استوفى فيه جهود النحويين قبله.

وقد كان لـ "كتاب سيبويه" أثرٌ واسعٌ على النحويين باختلاف مذاهبهم ومشاربهم حتى صار عمدة الدراسة النحوية في مختلف القرون، واعتنى العلماء بشرحه، وكشف مشكلاته، كما وضع طائفةٌ منهم كتبًا في شرح شواهده، وكتبًا في الاعتراض عليه، ووضع آخرون في الذبِّ عنه.

وقد ذكر أبو جعفر النحاس أن عليَّ بن سليمان قال: بأن سيبويه قد جعل في كتابه مشتبهًا، ليكون لمن استنبطَ ونظرَ فضلٌ، ثم علَّق على ذلك بقوله: (هذا الذي قاله عليُّ بنُ سليمانَ حسنٌ، لأن بهذا يشرف قدرُ العالم وتفضُل منزلته، إذ كان العلم يُنال بالفكرة واستنباط المعرفة، ولو كان كلُّه بيِّنًا لاستوى في علمه جميع من سمعه، فيبطلُ التفاضل، ولكن يُستخرَجُ منه الشيءُ بالتدبُّر، ولذلك لا يُمَلُّ، لأنه يزداد في تدبره علمًا وفهمًا)[2].

ولما حُدِّث المبرد بقول أبي عمر الجرمي: (أنا مذ ثلاثون سنةً أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه) وكان محدِّثُه متعجِّبًا مستنكرا، قال له المبرد: (أنا سمعت الجرميَّ يقول هذا، وذاك أنا أبا عمر كان صاحبَ حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الدين والحديث، إذ كان ذلك - يعني كتاب سيبويه - يُتعلَّم منه النظر والتفتيش)[3]، قال الشاطبي معلِّقًا: (المراد بذلك أن سيبويه وإن تكلَّم في النحو، فقد نبَّه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني)[4].

ولمثل هذا كان "كتاب سيبويه" من أجلِّ أصول التحقيق.

هذا استعراضٌ موجَزٌ لطبيعة هذين الأصلين يتبين به سببُ اتِّخاذِ كلٍّ منهما أصلًا، فإذا استبان ذلك لم يبقَ إلا بيان كيفية تعامل الطالب معهما، فيُقال:

"ألفية ابن مالك" و "شرح الأشموني" عليها لما اتُّخِذتْ أصلًا للضبط فإنَّ على الطالب أن يجعل منها بابًا لضبط مسائل النحو، ومصطلحاته، وحدوده، وتقسيماته، ويشفع إليها من مختلف الشروح ما يتعلق بهذه الأوعية الضابطة، دون إغراقٍ منه في متعلَّقاتها اللفظيَّة والفنيَّة، وسائرِ الهوامش التي يتعلَّق بها بعض الطلبة.

أمَّا "كتاب سيبويه" فيجعلُ منه طالبُ العربيَّة منطلقَ تحريره في علومها، فلا يدع في "كتاب سيبويه" من أصلٍ ولا فرعٍ، ولا شاهدٍ من شعرٍ أو نثرٍ، إلا درسه وتتبَّع أثره، ويستقرئ بـ "كتاب سيبويه" مشكلاتِ العربيَّة ويتطلَّب فحصها منه ومن غيره، فيرصد وجوهَ الأسئلة ومواضعَ المشكلات[5]، ويتخذ من نصوص سيبويه مادَّة درسٍ واستنباط، يديم فيها النظر ويقلِّب فيها الفِكَر، ويسعى جاهدًا في استكشاف منهج سيبويه في دراسة العربيَّة عرضًا واستنباطًا واحتجاجًا، ويستعين على ذلك بما وُضِع عليه من دراساتٍ معاصرةٍ تناولت مناهجه وآثاره.


هذان نموذجان أردتُّ بعرضهما تجلية فكرة الأصلَين، وبه يُعلَمُ أنْ ليسَ يكفي طالبَ العلم أن يطالع الكتب المهيَّأة للتحقيق مطالعة عابرة، وإذا نظرنا في واقع المحيط العلمي رأينا الكتب المهيَّأة للتحقيق إنَّما تُراجَع لأغراض بحثيَّة، أو لمراجعة مسألة، أو لجرد عابر يُرادُ منه اقتباس بعض الفوائد المتفرقة، وهذا ما تطمح هذه الورقة لدفعه، فلا بُدَّ أن يُجوِّد طالب العلم من تعامله مع هذا الجنس من المصنفات، فيكرِّر مطالعة ما اتَّخذه أصلًا منه ويديم النظر فيه، ثمَّ إنَّ تكرارَه لها ليس تكرارًا مجرَّدًا، بل هو "تَكرارٌ موجَّهٌ" على نحو ما تقدَّم بيانه في المثالين المفصَّلين.

وبذلك يدرك الطالب أن طريقته في التحصيل تختلف باختلاف مقاصده، وذلك يستحثُّه على ضبط مقاصد تحصيله، والجدِّ في اتخاذ الوسائل التي تعينه على تحقيقها .. كما أنَّه بذلك يعلم أنَّ الكتب تختلف مسالك الإفادة منها بحسب مضامينها والمقاصد المبتغاة منها، فليست الكتبُ مجرَّدَ خزانةٍ تُستخلَص منها النتائج فحسب، بل هي معامل تدريب وتمرين للطالب على إذكاء ملكاته والرقي بها متى ما استحضر الطالب ذلك.



*****


كان الشافعيُّ يدمن النظر في موطَّأ الإمام مالك ويقول: (ما نظرتُ في موطأ مالكٍ إلا ازددتُ فهمًا)[6].

وكان المزنيُّ شديدَ التعلُّق برسالة الشافعي حتى قال: (أنا أنظر في كتاب الرسالة منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيه مرةً إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته)[7].

كما كان المازنيَّ شديد التعلُّق بكتاب سيبويه حتى قال: (ما أخلو في كلِّ زمنٍ من أعجوبة في كتاب سيبويه)[8]، وكان عبدالله بن محمد بن عيسى الأندلسي (يختم كتاب سيبويه في كلّ خمسة عشرة يومًا)[9].

وكان ابن تيميَّة حفيًّا بتعليقة القاضي أبي يعلى، حتى كان يطلب من طلابه إحضارها إليه في السجن، فكتب إليهم مرَّةً في جملة ما طلبه منهم: (... وترسلون أيضًا من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخط القاضي أبي الحسين، إن أمكن الجميع، وهو أحدَ عشرَ مجلَّدًا، وإلَّا فمن أوَّله مجلَّدًا، أو مجلَّدين، أو ثلاثة)[10].

وقرأ محمود شاكر على أحد شيوخه لسان العرب قراءتَينِ تامَّتينِ، وبعضَ ثالثةٍ، وقال: (قرأت وأنا في السنة الأولى الثانوية لسان العرب حرفًا حرفًا من أوَّله إلى آخره)[11].

إلى نماذجَ كثيرةٍ استوطنت كتب السير والتراجم ..

وكثيرٌ من الطلبة يطمح ببصر تحصيله إلى ما بلغه أئمة المحققين، ويرجو أن يبلغ في لاحق دهره مراتبَهم، لكنَّه لو تصفَّحَ واقعَه لقطع بأنَّ نوع تكوينه العلمي لا يوصله إلى ما يرجو، بل غايةُ ما يمكنه الوصول إليه هو ضبطُ نتائج العلوم دون القدرة على تحقيقها وتحريرها، فكان من اللازم إذًا هذا التمييز بين مقاصد التحصيل، ليكون الطالب على درايةٍ بحقيقة تحصيله، ثم يتَّخذَ من الوسائل ما يوصله إليها.



مشاري بن سعد الشثري

22/ 12/ 1436 هـ

__________________
[1] الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز للجرجاني - وهي ملحقة بـ "دلائل الإعجاز" - (604).
[2] خزانة الأدب للبغدادي (1: 372).
[3] مجالس العلماء للزجاجي (191).
[4] الموافقات (5: 54).
[5] من النصوص الثمينة في هذا السياق ما قاله ابنُ ولَّادٍ النحويُّ في ردِّه على المبرِّد فيما زعمه من غلط سيبويه في مسائل، حيث قال: (... ومع ردِّنا عليه فنحن معترفون بالانتفاع به، لأنَّه نبَّه على وجوه السؤال ومواضع الشكوك) الانتصار لسيبويه على المبرد (43)
[6] حلية الأولياء (9: 70).
[7] طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2: 99).
[8] خزانة الأدب للبغدادي (1: 371).
[9] بغية الوعاة (2: 59).
[10] العقود الدرية لابن عبدالهادي (349).
[11] ظل النديم لوجدان العلي (100). وانظر: مقالات الطناحي (2: 520)، وفيه: (أخبرني رحمه الله أنه قرأ لسان العرب كله، والأغاني كله، وهو طالبٌ بالثانوي).


ليست هناك تعليقات: