(وإن تعجب فعجب ١١)
الحمدلله، وأصلي وأسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد
فإن من العجائب في زماننا هذا - وقد كثرت عجائب زماننا الأخير - ما يفعله البعض - أو لعله الكثير - من التصدق على الأبعدين، وترك الأقربين، أو على المتوفَين وترك الأحياء المحتاجين، وهذا - وربي - لهو من الخلل في المفاهيم، والتطفيف في الموازين!
والعقل - قبل الشرع - يرشد إلى هذا؛ فالأقربون أولى بالمعروف والإحسان بكل صوره وأشكاله، وهو من أمارات إرادة الله بعبده خيرا؛ حيث يقيم ميزان الشرع ولو خالف هواه، وفي قصة مسطح وأبي بكر - رضي الله عنهما - عبرة للمعتبرين؛ حيث وقع مسطح في عائشة بقول الإفك، وكان فقيرا ينفق عليه الصديق؛ فقطع عنه النفقة؛ فنزلت الآية من السماء: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم).
وذلك أن الصديق - رضي الله عنه - حلف ألا ينفق على ابن خالته مسطح؛ فقال الله: (ولا يأتلِ) أي: لا يحلف؛ فقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي؛ فأعاد النفقة عليه.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به). رواه الطبراني: 750، وإسناده حسن، وصححه الألباني.
وفيه نفي كمال الإيمان عمن هذا حاله.
والعربي الأصيل طبعه الكرم والجود والبذل، وكان الرجل منهم يسود فيهم ببذله وكرمه، وربما افتقر، كما كان عم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو طالب سيدا في قومه وهو فقير، حتى انقلبت الموازين بأخرة في الناس؛ فصار الرجل يسود فيهم بجمعه وكنزه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وخبر حاتم الطائي في كرمه مشهور، حتى أنه مرة عقر فرسه لضيفه لما لم يجد في بيته شيئا!
وليس مطلوبا من العبد المسلم أن يهلك ماله بالنفقة والصدقة، ولا يحسن به كذلك؛ بل يقبح به أن يشح به عن إنفاقه في وجوه الخير والبر والإحسان، والمعروف والإصلاح بين الناس، قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما). النساء.
وقال - جل ذكره - : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا). الإسراء.
ومن مداخل الشيطان على النفس - وقد حدث هذا معي - : أن يقذف في روعك لزوم وقوع الكمال، وإلا؛ فلا، فمثلا تقول لا بد أن أتصدق بكذا؛ وإلا؛ فلن أتصدق؛ بل الواجب التصدق والبذل بما في يد الإنسان وقدرته ولو قل؛ فإن النية تعظمه وتنميه، وربما حصلت بسببه المودة والألفة، وكان ذلك من أسباب الحجب والوقاية عن النار، فكما جاء في الحديث: (اتقوا النار، ولو بشق تمرة).
ثم ليُعلم - رحمني الله وإياك - أن الناس قد وضعوا لهم طرائق ورسوم ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ذلك: عدم فقههم لمعنى إقامة الصلاة، وكأنها تقام في المسجد وليس على المسلم من حرج كبير إذا خالف ما تلزم به الصلاة من المبادرة في الطاعات، والكف عن المعاصي والسيئات؛ مما أدى بكثير من المسلمين إلى النكوص على أعقابهم، فلا تجد من كثير منهم رحمة لجيرانه، أو صلة لأرحامه، أو إحسانا لفقير أو مسكين أو ضعيف أو محتاج، ويغفل عن كون ذلك من أعلى مراتب الإحسان؛ بل من أحب الأعمال إلى الله؛ فإن ذلك من أعمال النفع المتعدية؛ بل هو من صميم ديننا الحنيفي السمح، المستقيم الوسطي، وليس الإسلام منحصرا كما يظن الكثير في جلباب وشعر ومظاهر وشعائر؛ بل هو قيم مثلى، وأخلاق عليا، صفاء نفس، ورقة طبع، وقرب وبشاشة ولين. الإسلام كما أنه صلاة وزكاة وحج وجهاد؛ هو - أيضا - عدل وحقوق وواجبات، وكرم ونبل، ومروءة وفضل، وشهامة ورجولة.
وكتب/
أبو عبدالملك، عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
السبت ١٤٤١/١٠/١٤.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق