السبت، 24 مايو 2025

قيد الخاطر- (الولهان بكرة القدم)

قيد الخاطر- (الولهان بكرة القدم!).

جاء في (لسان العرب، ٥٦١/١٣): "وَلَهَ: الوَلَهُ: الْحُزْنُ، وَقِيلَ: هُوَ ذِهَابُ الْعَقْلِ وَالتَّحَيُّرِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجْدِ أَو الْحُزْنِ أَو الْخَوْفِ. والوَلَهُ: ذِهَابُ الْعَقْلِ لفِقْدانِ الْحَبِيبِ.
...والوَلَهُ يَكُونُ مِنَ الْحُزْنِ وَالسُّرُورِ مِثْلَ الطَّرَبِ. وَرَجُلٌ وَلْهانُ ووالِهٌ وآلِهٌ، عَلَى الْبَدَلِ: ثكلان". (١).
ويقول ابن القيم - عليه رحمة الله - في كتابه العظيم (طريق الهجرتين وباب السعادتين، ٢١/١):
 "ومن وُكِل إلى شيء غير اللَّه فقد أتيح له بابُ الهلاك والعطَب، وأغلق عنه بابُ الفوز والسعادة؛ فإنّ كل شيء ما سوى اللَّه باطل، ومن وُكِلَ إلى الباطل بطل عمله، وضل سعيه، ولم يحصل إلّا على الحرمان.
فكلّ من تعلّق بشيء غير اللَّه انقطع به أحوجَ ما كان إليه، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦)} [البقرة/ ١٦٦].
 فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي كانت بغير اللَّه ولغير اللَّه، قُطِعت بهم أحوجَ ما كانوا إليها، وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلّت وبطلت اضمحلّت أسبابها وبطلت، فإنّ الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها. وكلُّ شيء هالكٌ إلّا وجهه سبحانه، فكل عمل باطلٌ إلّا ما أريد به وجهه، وكلّ سعي لغيره فباطل ومضمحل". (٢).
وقال ابن القيم - أيضا - في كتابه العظيم (مدارج السالكين، ٣٨٥/٣): 
"قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: ١٦٥]. فأخبر أنّ من أحبّ من دون الله شيئًا كما يحبُّ الله تعالى فهو ممّن اتّخذ من دون الله أندادًا، فهذا نِدٌّ في المحبّة، لا في الخلق والرُّبوبيّة، فإنّ أحدًا من أهل الأرض لم يُثبِت هذا النِّدّ، بخلاف ندِّ المحبّة، فإنّ أكثر أهل الأرض قد اتّخذوا من دون الله أندادًا في الحبِّ والتّعظيم". (٣).
قال أبو عبدالملك:
فقد رأينا في زماننا من يعشق حد الهيام أشياء كثيرة تافهة، ساقطة، مرذولة، لا يتبع الرجل همته شيئا إلا على مقدار ما يرى نفسه على الحقيقة، فمن امتهن نفسه، وسفه عقله، وطعن في وجدانه، فواقعه يصدق ما يعتقد باطنه، والتلازم أصل أصيل، وركن ركين بين الظاهر والباطن في الاعتقادات والسلوك، فمن زكى نفسه، ظهر أثر تزكيته واقعا مبصرا، ومن دنس نفسه، ظهر أثر ذلك كذلك، هذا من حيث الأصل والقاعدة والأساس، إذا علمت هذا، فإنني مخبرك عن صدق ما قال ربنا في كتابه العظيم: (أفرءيت من اتخذ إلهه هواه...)، صدق ما يطابق خبر هذه الآية في قرآنه المجيد في الواقع المعاين والمبصر، فإن "للناس فيما يعشقون مذاهب"، فلقد رأيت - كما رأى الكثير غيري - من يعشق لعب الكرة حد الهيام، ويبكي إذا خسر فريقه الذي هو مغرم به فقط، ولا يستفيد من نصره فلسا ولا دون ذلك، بل إذا أراد حضور المباراة غالبا يدفع من جيبه، وآخر مغرم بلاعب سخر حياته للعب، وهو سخر حياته لعشق اللعب واللاعب!
وآخر من يعشق سماع الأغاني، أغاني الفسق والمجون والعهر والتفسخ، حتى أضحى المطربون المغنون أو الشعراء السفهاء - وهم من فئة الذكور - يتغزلون ببني جنسهم من الذكور، فأي فسق، أي فجور هذا؟!
وآخرون عبدوا "الوظيفة"، و "المنصب"، و "الكرسي" و "الجاه" و "المال" و "النساء" و "المردان"، وما لا يخطر على بال إنسان، المهم أنها عبودية لغير الملك الديان، الرحيم الرحمن، وصدق ابن القيم - رحمة الله تعالى عليه - حين يقول: "من تعلق بشيء دون الله، عذب به ثلاث مرات، في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة"، أو كما قال رحمه الله. (انظر: الداء والدواء، ١٨٥). (٤).
والمقصود: 
ارتكب هؤلاء الذين اتبعوا شهواتهم ومعبودات أهوائهم من دون الله ما يسخط الله من أسباب توصل العبد لهواه، وتغضب ربه وسيده ومولاه، فترتب على ذلك أمور، هي عواقب وشرور، هجران كلام الله، والتعلق بغير الله، ومقارفة الفواحش، وارتكاب الكبائر، ونسيان الفرائض، وهجر الطاعات، والتوغل في باب المباحات، مما أفضى بهم إلى عدم تأنيب الضمير، فقدوا سياط المواعظ، وقوت القلوب، لأنهم استعاضوا عن الحق بالباطل، وعن الجد بالهزل، وعن القرآن بالأغان، وعن الصدق بالكذب، وعن الحلال بالحرام، وعن طب القلوب بأمراض القلوب، وعن الستر بالجهر "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " كل أمتي معافى إلا المجاهرون"، ذنوب فوق ذنوب، وأمراض قلوب، وهجران كلام علام الغيوب، فهانت النفوس، وقست القلوب، وضعفت العقول، ويبست أصول الوجدان والعاطفة الصحيحة، وانقلبت الفطرة الطيبة، وتمرد الأولاد على الآباء، وفشت المنكرات، وعم البلاء، ونطق الرويبضة السفهاء، وتنادى المرجفون، وتمالأ المنافقون، وقال الصالحون: اللهم سلم سلم، فلا موعظة تسمع، ولا تذكرة تنفع، القلوب قست، والعيون قحطت، والجوارح كلت عن العبادة والجد، عمت السفاهة، وطمت الخلاعة، وفشا المجون، وقل الخوف من الله، وذلك من أسباب طغيان المادية، وهذا السيل الجارف من الغثائية، وما يبث في وسائل الإعلام، وضعف الصالحين، وندرة المصلحين، وكثرة أبواب الشهوات وأبواب الشبهات، فضعفت التربية الدينية الإسلامية، وقلت البركة ومن يأخذ بأسباب النجاة والخيرية "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..."، فكان ما ترى، والأمة - يا محب أقولها لك من قلب - لا تحتاج في عامة أمرها للنجاة إلا أن تأخذ بسبب واحد، ألا وهو: الاعتصام بالكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان - رضوان الله عليهم أجمعين -، فهنالك تتنزل السكينة، ويقع النصر من الله، والتغيير سنة شرعية وكونية، فوجب إذن على كل مسلم أن يغير للأحسن، لنستجلب نصر الله، وليأخذ بالعزائم، فمن أخذ بالعزائم، حصل الغنائم، ومن أخذ بالرخص، رخص، وحصل المآتم "ولا يظلم ربك أحدا".
إن على الأمة التغيير، والأخذ بالعزائم في صغير الأمر والكبير، فهنالك هنالك يحمد المصير، فهيا هيا إلى المسير، وما عدا ذلك فهذيان وجنون، وأعيذك بالله أن تكون عبدا لغير الله، فأبصر طريقك، واقرأ قرآن ربك، وأدم النظر في الصحيحين، وتطلب العلم الشرعي، والأدب المرعي في كل آن، وفي كل حين، ولا تستصغر نفسك أن تكون شيخا أو مفتيا أو قاضيا أو عالما أو عابدا "كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها"، صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتق نفسك، وفر بدينك، اسلم، تغنم، وكما قالوا: "السلامة لا يعدلها شيء"، و "الأماني رؤوس أموال المفاليس" و "الأماني أم الندامات"، فاعتز بدينك، وحام عن عرضك، وافخر بأمتك، واسلك منهاج نبيك، ولا تهن نفسك فتكون في مجلس سفهاء، أو نادي لقطاء دخلاء، غير أصيلين، كن مع الأصلاء، الأعزاء، واحذر أن تكون في صف السفهاء، فالسفاهة قد أوقعت بالأمة الخطر عبر وسائل العصر "سناب شات- تويتر- تيك توك- يوتيوب- فيس بوك..." في قائمة طويلة، غالب ما يظهر فيها يضر ولا ينفع ولا يسر، وغالب المشتغلين بها سفهاء، غير أصلاء، فمرة أخرى - نصيحة محب من قلب -: الدين الإسلامي رأس مالك وأنت عربي، ولك الفخر، فكن على قدر المسؤولية، اعتز بدينك، وافخر بأمتك، وتاريخها وماضيها، وحام عن عرضك، وانهج منهاج الأنبياء - عليهم السلام - في التحمل والصبر على البلاء، وارفع همتك، ودع الوساوس والأحزان، وحافظ على القرآن، واطلب العلم بإتقان، وابتعد عن سلوك سبيل السفهاء، فاحذر السفاهة، فإنها بلادة، ولا تكن دني الهمة، مضيعا للوقت، سفيها طائشا، ضعيفا رعديدا، ولا تحم حول الشهوات، ولا تلج باب الشبهات، وابن علمك على يقين بتلقي وتمكين، تكن من المفلحين، والسلام.

وكتب/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي الحربي. 
طبرجل- السبت- ١٤٤٦/١١/٢٦.
Abdurrahmanalaufi@gmail.com 


_______________________
(١) لسان العرب، تأليف/ محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (ت ٧١١هـ)، نشر/  دار صادر - بيروت، ط ٣ - ١٤١٤.
(٢) طريق الهجرتين وباب السعادتين، تأليف/ الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (٦٩١ - ٧٥١)، الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)، الطبعة: الرابعة، ١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م.
(٣) مدارج السالكين، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (٦٥٩ - ٧٥١)، الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، ١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م، (الأولى لدار ابن حزم).
(٤) الداء والدواء، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (٦٩١ - ٧٥١ هـ)، الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)، الطبعة: الرابعة، ١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق