فيض الخاطر- (نقد ظاهرة الفهم الخاطئ للتدين).
يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ في كتابه الكريم: (اهدنا الصراط المستقيم). الفاتحة.
ويقول ـ تعالى ـ أيضا: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا...).فالتدين يعني: التمسك بالكتاب والسنة ابتداءا، ثم السير عليهما بمنهج السلف الصالح، من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.وكلما كان الإنسان أكثر تمسكا بتوجيهات الكتاب العزيز، والسنة النبوية المطهرة، بما فيهما من أوامر وزواجر، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وإنذار وتبشير؛ كان أكثر تدينا، وأقرب لله فضلا وإحسانا، وأكرم عنده ممن دونه في العمل والإخلاص والنية، فليس للعبد منة على سيده؛ بل الفضل والمنة والإحسان لله وحده لا شريك له؛ لأنه بتوفيقه لعبده للطاعات، وبتفضله عليه بالنعم والخيرات، وبإيجاده من مبتدأ أمره وعدمه، وقبضه إليه في معاده؛ استحق ـ سبحانه ـ أن يكون العباد له عبادا ذليلين، طائعين، مخبتين، وفوق ذلك كله وعدهم ـ إن أحسنوا ـ الحسنى وزيادة، وهي الجنة، وزيادة في نعيمهم؛ تفضل ـ سبحانه ـ عليهم بكشف الحجاب عن وجهه الكريم؛ لينظروا إليه، وما في الجنة نعيم يوازي هذا النعيم، قال ربنا: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون). المطففين. أي: إن الفجار الكفار سيحجبون عن النظر إلى وجه الله الكريم، ومفهموم المخالفة: إن المؤمنين الأبرار سيمتعون بالنظر إلى وجهه ـ سبحانه وتعالى ـ. قال الله ـ عز وجل ـ : (وجوه يومئذ ناضرة* إلى ربها ناظرة). القيامة.وأخبر ـ جل وعلا ـ أنه يجازيهم على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة إلى ما يشاء ـ سبحانه ـ. وأنه لا يجازيهم على السيئة إلا بمثلها، قال الله ـ تعالى ـ : (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون). النمل.وقال أيضا: (من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون). القصص.
ومعلوم أن مدار الأعمال على النيات، فلا يزكو العمل إذا كانت النية فاسدة، وصلاح الأعمال وفسادها مرتب على صلاح النية وفسادها، فبالنية تزكو الأعمال وتنمو، وبعدمها أو نقصها تذهب بركة الأعمال على حسب ما داخل النية من شوائب ومكدرات.
وإن نظر الناس في زماننا ـ خاصة ـ إلى مفهوم التدين والاستقامة؛ نظر قاصر، وفهم خاطئ منحرف؛ إذ إن أكثر عامة عصرنا قد فهموا التدين في المظهر واللباس، من توفير اللحية، وتقصير الثياب، وتقطيب الجبين، والغلظة في القول والعمل، والترفع على عباد الله المؤمنين، وازدراء المخالفين، والحط من قدر العاصين، وتزكية النفس، مع أن هذا لا يمت للدين الإسلامي الحنيفي السمح بصلة أبدا. فإن ديننا مبني على التيسير والسماحة، والرفق مع المخالف ـ مهما كان حاله ـ والتعامل مع كل بحسبه، واستخدام التلطف واللين في القول والعمل.
وإنه من الفهم الخاطئ للتدين:
النظر إلى المظاهر وإغفال المخابر، مع أن القلب هو الأساس، وعليه يدور صلاح العمل من فساده، قال الله ـ تبارك وتقدس ـ عن دعاء الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ : (ولا تخزني يوم يبعثون* يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم). الشعراء.
فلا يجوز حجر التدين على الأعمال الظاهرة، فكل إنسان أطلق لحيته، وقصر ثوبه، وجعل مسواكا في جيبه؛ نجعله متدينا، ونصمه بالعالِم والقدوة!
إنه من الواجب عند النظر لمفهوم التدين عدة أمور:
الأمر الأول: استصحاب كون التدين هو التمسك بالكتاب والسنة.
الأمر الثاني: عدم قصر التدين على الأعمال الظاهرة.
الأمر الثالث: التأكيد على أن القلب هو الأساس، وما الجوارح والأعضاء إلا جنود مجندة له.
الأمر الرابع: إنه لا يوجد قدوة مطلقة إطلاقا سوى الأنبياء ـ عليهم السلام ـ.
الأمر الخامس: نفي ما ليس له صلة بالدين عن التدين.
الأمر السادس: إن التدين هو التخلق بالأخلاق الفاضلة، والأعمال الحسنة، كأعمال البر، من الصدقة والصدق والوفاء بالعهد، وعدم الغدر والخيانة، وطيب الكلام، وطيب الطعام. وكل متدين على حسب استقائه ونهله من الشريعة؛ يكن له نصيب من وصف "التدين".
الأمر السابع: فصل الأعمال عن المنهج؛ إذ إن أعمال الأتباع ليست تمثل المنهج دائما، فالأعمال غير معصومة من الوقوع في الزلل، بينما المنهج حق من عند الله ـ تعالى ـ، فلا يجوز إلصاق ما شذ من الأعمال الصادرة من الأتباع بالمنهج الحق.
كتبه: عبدالرحمن بن مشعل المطرفي الصاعدي العوفي الحربي.
الثلاثاء 1/8/1436
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق