الآن وعندما أردت الإخلاد للنوم - بعد يوم مضن وشاق - خطرت علي خاطرة، فأردت صيدها - فصيد العلم اقتناصه وتقييده كتابة -، وهي: تذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض عليه ضب - كما في صحيح البخاري رحمه الله -، فرفع يده عنه، فقال خالد - رضي الله عنه -: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لا يكون بأرض قومي، فأجدني أعافه...
قال أبو عبدالملك:
وفي هذا دليل مطمئن لكل من ضاقت به نفسه: لا تيأس، لا تتضجر، لا تحمل نفسك فوق طاقتها، لا تهلك روحك، ولا تزهق نفسك، ولا ترهق تفكيرك بما يطرأ عليك من عوارض نفسية - ذكريات أليمة، صدمات الطفولة، حوادث انفصال أو فراق أو نكران جميل -، تريث، اطمئن، أد ما عليك لوجه الله، لا تنتظر مقابلا إلا من الله، فالعوض كله من الله، لا من البشر، ولا من دون الله أبدا، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أكل الضب لأن نفسه تعافه، ففي هذا دليل على ما هو أولى من ذلك: وهو أن المسلم لا يكره نفسه على شيء لم يطلبه الله منه شرعا، ولا أراده، لا أعني أن تنزع الرحمة من قلبك، أو أن تكون جافا غليظا، سبابا شتاما، كلا، ليس الأمر كذلك، وإنما أنبهك إلى ما في الحديث من التنبيه على أحقية الإنسان بأن يسعى مع نفسه ومع الآخرين في الإسعاد والإنجاد حسب الوسع والطاقة، ولا يحجر واسعا، ولا يضيق على نفسه، ولا يحملها فوق ما لا تحتمل، وليأخذ نفسه بالرفق واللين، شيئا فشيئا، المهم لا يحوم حول الحرام ولا موجباته أو مسبباته، ولكن ليعلم أن لنفسه عليه حقا، فلا يتعبد الله بالحزن، فليس الحزن - يا أخي - من مدارج السالكين، ولا من مقامات العارفين، ولا أحوال الصادقين، فاطمئنانا يا عبد الله، هون على نفسك، فالرضا من الرحمن، والسخط من الشيطان، والعوارض النفسية كالحر والبرد، لا بد منها، ولكن الحل هو في التعايش معها، تحايل معها، واجه، لا تصادم، وأيضا لا تطأطئ رأسك لها، فتقتل نفسك ألما وحسرة، وتظل - كثور الرحى - يدور في تصور خاطئ، وخطة فاشلة، إن اصطدمت بصخرة، فلا تظل طول عمرك واقفا أمامها تكرر نفس المحاولات، والنتيجة نفس الأخطاء، والحل هو في حرف البوصلة يمينا أو شمالا.
الغريب القضية في مثل هذا سهلة للغاية، التنظير سهل للغاية، المتحدثون كثر، الذين يحسنون الكلام كثير، لكن أين من يقود المسيرة، ويصحح السيرة، ويجدد الدماء، وينشط الدماغ، ويعمل التفكير، لأن المرء ما دام يكرر ذات الأخطاء، فلا ينتظر إلا ذات النتائج، فغير طريقة تفكيرك ونظرتك للأشياء، تتغير تلقائيا أفعالك، وعلى ذلك تلقائيا تتغير النتائج، ولكن أين من يفهم؟ وهل رأيت - يا رعاك الله - من يفهم؟!
كثير ممن رأيت يكرر ذات الأخطاء من عشرين سنة وتزيد ويريد - مع ذلك - نتائج مختلفة، وهذا ما لا يكون إلا مع ثور، سوى أنه في حاجة إلى قرنين وذنب طويل وشحم كثير، ثور، ثور، لكن في مسلاخ إنسان، وما أكثر المسخ في البشر: قرود، خنازير، حمير، ثعالب، أسود، إلى آخر القائمة "وكل يميل إلى جنسه"، ومنهم كالنعامة، ومنهم كالبغل، ومن الرجال من هو في وصفه ورسمه كالأسد قوة ومواجهة وشراسة، لكن أين من يعتبر، أين من يتدبر، أين من يقرأ ويتفكر؟!
وأخيرا أقول:
العوارض النفسية كالحر والبرد، قدر كوني، فوطن نفسك على تقبلها، لكن لا تفعل ما تمليه عليك، وتخلص منها بالأهون فالأهون، لا تغل ولا تفرط، كن وسطا في تقبل انفعالاتك النفسية، أعط مبدأ الأخلاق والدين ما يستحقه أو بالأحرى ما تقدر عليه، ولا تكلف نفسك فوق طاقتك، وأبشر وأمل من ربك خيرا، والسلام.
بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي الحربي.
الدوداء- الأربعاء- ١٤٤٧/١/٢٨.
Abdurrahmanalaufi@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق