السبت، 29 يناير 2022

الانفتاح المغري والرد المخزي

(الانفتاح المغري، والرد المخزي) 

فرق بين حياة وحياة، ومحمد - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - فرقٌ بين الناس، وفرَّق بين الناس أيضا كما روي.

وإنها لحياة بائسة تلك الحياة التي تقوم على "الأنانية" أو "المادية"؛ بتشرب ثقافات دخيلة هشة، خيلت للكثير من "الجيل المنفتح" بوجوب عيشها "حياة مثالية" أو "وردية" بتماثيل مصطنعة، وتلك من معضلات العصر الذي بلي جيله بما لم يعد يشعر بما بلي به، أو لعله يشعر، ولكن كما قيل :

لقد أسمعت لو ناديت حيا * ولكن لا حياة لمن تنادي 
ولو نارا نفخت بها أضاءت * ولكن أنت تنفخ في رماد 

ومن ذلكم :

ما يصدر من تماثيل تصور للجيل المستهدف "نعومة الحياة" و "عبء الزواج" و "ثقل الشرع"!... في خطوات شيطانية يعجب منها الشيطان نفسه، ويلقي سلاحه؛ ليجلب أولئك المردة من الإنس بخيلهم ورجلهم على أركان الفضيلة ليشوهوها، وجمال الحياة ليطمسوها، فلا يرى إلا نفسه، ولا يفهم نفسه ولا الآخرين إلا كما يريدون له أن يفهم، ولا يتخذ مساره في حياته الزوجية أو الفكرية إلا على ضوء ما يريدون له أن يختار أو يتخذ! فهو يعيش بين جدران مصمتة، ولكن بفعل الجوال - أو لعله الدجال -؛ فإن حياته يخطط لها الآخرون، ويسيرها الغرباء، وبتفسير أدق "الأعداء الألداء"، فكم هدموا من فكر، وكم خلطوا حقا بباطل، وكم زرعوا من سموم قاتلة؛ يصعب قلعها إلا بتعليم متقن، في عرض وأسلوب جذاب ومبتكر...

إنه بفعل تصدير تلك الثقافات؛ وصلوا بالجيل إلى "فوضى فكرية" و "تخبط منهجي" و "تصور منكوس" للنفس والحياة والآخرين، ولا غرابة، فمن ملأ نفسه من أفكار غيره، وأسلمهم زمام الأمور؛ فلا يلومن نفسه إن هدموا بيته، وزرعوا السم في أحشائه، وأتوا على أتعابه؛ لينسفوها في فضاء لا يؤمن إلا ب "القوة"!

من الضعف - والله - : أن تسلم عقلك لعدوك، وتلهث وراء سراب من قتلك على يديه، قتل نفسك، وزهق روحك، وإراقة دمائك؛ كل ذلك يهون عند ما تذبح بلا سكين، في "معارك الفضيلة" و "ميادين الشرف" و "مسالك المنهج" و "ساحات العقيدة"!

رسالتي:

لا تغفلوا عن تحييد هجمات العدو إن لم تصدوها، الأب يتعلم العلم الصحيح المبني على القرآن والسنة بفهم سلف الأمة الصالح، والأم كذلك، وأيضا الأولاد، فلا حصن كحصن العلم، فمنه تستمد المعاني السامقة، والأفكار النبيلة، وبه يكون الثبات؛ لأنه لا ثبات بلا عمل، ولا عمل بلا نية، ولا نية بلا علم، ولا علم بلا إرادة، ولا إرادة بلا توفيق، ولا توفيق بلا موفق - وهو الحق سبحانه -، فيتوجه بكليته لله؛ صدقا وإخلاصا ومتابعة وعملا دؤوبا لا يفتر، وقد فاز من ذكر، فصبر وشكر، وهما قطبا الدين، وأساس الملة، وقوام الشريعة. 

هذه المعاني تحارب أشد المحاربة في عصرنا حربا علنية بلا استحياء، والغالب نوام، فأين "حراس الفضيلة" و "حماة الأعراض" و "أهل النخوة" و "أصحاب الغيرة" و "فرسان المروءة"؟! 

إنهم هم الغرباء، ولكن المسؤولية عظيمة في تبيين "روح الشريعة" و "مسالك المنهج" و "نظام العقيدة" و "أسس الدين"؛ حتى لا ننجرف وراء العاصفة، ولا تأخذنا العاطفة  "فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ". 

حرره/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي. 
طبرجل - الاثنين ١٤٤٣/٦/٢


قيد الخاطر- (من أسباب الظفر: الأخذ بأسباب النصر)

قيد الخاطر - (من أسباب الظفر: الأخذ بأسباب النصر) 

عندما تمتلئ صفوف المصلين في صلاة الفجر كما تمتلئ في صلاة التراويح وصلاة الجمعة والعيدين، بخشوع وتمثل حقيقي لروح الإسلام ومعناه، وأخذ بأسباب النصر والعزة والتمكين؛ عندها لن يخذل الرحيم عباده (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم) (فاذكروني أذكركم) (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الظالمون).

عبدالرحمن العوفي
طبرجل - فجر الجمعة ١٤٤٣/٦/٢٥

قال أحدهم وهو أد ظافر العمري - وفقه الله - على المغرد:

لا تظن الغربة في آخر الزمان غربة في العقيدة والعبادات فحسب؛ بل هي غربة في الأخلاق الحسنة، وغربة في العلم المؤصل، وغربة في الوجوه الكريمة!

فعلقت عليه قائلا:

وغربة في الإنسانية أيضا، حتى يظن الإنسان أنه مفرغ من "معاني الإنسانية" و "الفضيلة" قبل "معاني العروبة" وقبل "معاني دينه الحنيفي السمح"، فيصبح إنسانا بمسمى إنسان لا أكثر، أما في حقيقته وجوهره؛ فهو عبد للمادة، عبد للشهرة، عبد لمرادات الآخرين، وهذا خروج عن معنى الإنسانية إلى معنى ما دون البهيمية، فما أبأسها من حياة هي" حياة بلا معنى"!

طبرجل - الجمعة ١٤٤٣/٦/٢٥

الخميس، 27 يناير 2022

شذرات من كتاب (الرجل النبيل)

شذرات من كتاب (الرجل النبيل)

بسم الله، الحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

خفق الفؤاد ليقرأ حروفا من نور، وسيرة تفسح بها الصدور، سيرة أدبية لنبي الرحمة وإمام البشرية، ذلكم (الرجل النبيل) صلوات ربي وسلامه وبركاته على محمد.

وكانت فكرة قد لازمتني منذ شهر تقريبا، وهي فكرة (تقريب العلوم الشرعية)، فكتبت فيها ما شاء الله أن أكتبه، وبعضها في طور الإنجاز، ومن ذلك فكرة الكتابة في السيرة النبوية، لكن بصياغة أدبية شاملة لجوانب السيرة النبوية العطرة.

وقد رأيت أ وضاح بن هادي - حفظه الله ورعاه -؛ مؤسس (مؤسسة نقش المعرفة)، وهي مؤسسة رائدة في عرض الكتب وتسويقها وطباعتها وشرائها، وكم استفدت من نشراتها للكتب، ومن نصائح مؤسسها القرائية والمنهجية، واستفاد الكثير غيري كذلك.

أقول: رأيته في يوم الخميس بتاريخ ١٤٤٣/٦/٢٤ قد كتب تغريدة فيها صور بعض ما كتب في السيرة النبوية من مكتبته، وقد سألته: هل هناك كتب صاغت السيرة النبوية صياغة أدبية راقية مركزة على شخصيته في صفحات قليلة؟ فأجاب : الرجل النبيل، ونور من الحجاز، فهرعت إلى (الشيخ قوقل)، وكتبت اسم الكتاب (الرجل النبيل) فتصفحت النزر اليسير من الصفحات، واستخرجت منه بعض الشذرات، أسردها لك أيها النبيل كما يلي:

١- هناك أمور لا يتصور تعددها؛ منها الحب، فالحب فيض لا يتصور أن يكون متعدد الأقدار، ولكن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعاظم كل مرة، فقد بعثه الله بالحب كما بعثه بالرحمة، قال - صلى الله عليه وسلم - لأحد أصحابه: (يا أبا يزيد: إني أحبك حبين: لقرابتك، ولحب عمي لك). 

٢- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - محبا، ولكن لا يمكن أن يحب، ثم ينسى حبه بسهولة، فإن كان الحب هو الحلقة الأولى من سلسلة المشاعر؛ فإن الوفاء هو الحلقة الأخيرة والأبدية من هذه السلسلة. 

٣- الدنيا ليست حديقة غناء، ولا شجرة في هذه الحديقة، الدنيا ظل شجرة! إنها أقل من أن تكون شجرة! إنها الظل الزائل، إنها البقية الباردة التي في الكأس، إنها الأشياء التي تختفي بمجرد أن نحدق فيها! 

٤- الدنيا في عين النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست (لا شيء)؛ بل إن (اللا شيء) أكبر قدرا منها! إنها - باختصار - : ملعونة! 

٥- إن جناح البعوضة له من القيمة ما ليس للدنيا بكل تفاصيلها! 

٦- (بل أرجو من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا) :

إنه لم يسامح الأحياء؛ بل إن حلمه وتسامحه تجاوز الأحياء إلى أناس لم يخلقهم الله بعد! 

٧- لقد أسقط - عليه الصلاة والسلام - جميع (البروتوكولات) التي يظن بعض الناس أن المنصب يقتضيها، وأنها (رتوش) إضافية تحافظ على هيبة الكرسي، وجلالة المكانة، ولكنه - عليه الصلاة والسلام - قرر شطبها من قائمة اهتماماته، فليس هناك شيء يحافظ على هيبة الكرسي أقوى من العدل والإنصاف، ولا رتوش تبقي للمنصب مكانته وأبهته كالصدق والتواضع! 

٨- إذا رأيت رياح العفوية تهب، فتقتلع الزيف، وتلغي التجبر، وتطمس الكذب الذي يحيط به المتكبرون أنفسهم؛ فاعلم أنك بإزاء الرجل النبيل محمد - صلى الله عليه وسلم -. 

٩- لقد استعاض النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجارة المدينة السوداء عن السجادة الحمراء، وبالحشائش المنتثرة في تلك الخرائب عن الزرابي المبثوثة، وبرائحة تراب المدينة الطاهر عن تلك المجامر المتضوعة طيبا! 

١٠- هو نبي عظيم، وإنسان كريم، لم يبعثه الله تعالى ليخنق معاني الإنسان في قلوب الناس؛ فلا يغضبون ولا يحبون، ولا يضحكون ولا يبكون؛ بل جاء ليعلمهم كيف يبكون، ولكن بتجلد، وكيف يضحكون، ولكن بوقار، وكيف يحبون، ولكن برقي، وكيف يغضبون، ولكن بعقل! 
علمهم كيف يمزجون طبائعهم الأرضية بقيمهم السماوية، فينتج عن ذلك أعظم مزيج. 

١١- لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتقد أن الحياة مسجد، كل ما فيها ذكر وصلاة وعبادة؛ بل إنه جاء ليجعل العبادة شيئا أكبر من الصوم والصلاة... إن العبادة أن تعيش الحياة بالشكل الذي أرادك الله أن تعيشه فيها... إن العبادة أن تصلي وتصوم وتجاهد، وأن تنام وتأكل وتضحك. 

١٢- أرأيتم إنسانا استطاع أن يحافظ على الإنسان في نفسه كمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ففي الوقت الذي شيد معاني الإيمان العميق في النفوس، لم يخدش الإنسان الذي يغمض عينه، أو حتى عينيه عن بعض العفويات التي تقع في طريقه... 

١٣- إن تصنع عدم المبالاة لا يصنع العظماء؛ فالعظيم هو من لا تفوته التفاصيل المؤثرة، التي يجعل التعليق عليها الحياة أجمل، والأرواح أكثر طمأنينة. 

١٤- إن تحول الإنسان إلى صحراء قاحلة لا تحس، ولا تهش للجمال، ولا تعبر عن التفاتات الروح؛ ليس شيئا جيدا، فضلا عن أن يكون من منازع الرجولة، وسمات القيادة! 

١٥- وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ملهما، نافخا روح الحياة في قلوب من حوله، فيخرجهم بذلك من الهامش إلى المتن، ومن الانفعال إلى الفاعلية! 

لقد نقل مواهبهم من دائرة الميولات الشخصية، إلى حقل التأثير والبناء! 

نفض عمن حوله العادية، وألبسهم ثياب العظمة! 

وصدق الشاعر حين قال:

هل تطلبون من المختار معجزة؟ * يكفيه شعب من الأموات أحياه

١٦- مما يبهر كثيرا في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - : قدرته على قراءة مكوناتك في جزء من الثانية، ثم قدرته أيضا على انتخاب خصلة العظمة فيك، فينفخها بثناء، أو اهتمام، أو بلفت نظر، فيحولك إلى عظيم تحتل صفحة مهمة في سجل النبوغ. 

١٧- لم يحرص - عليه الصلاة والسلام - على إخراج أحد من أصحابه من حيزه الذي خلقه الله فيه وله، وإنما وظفه، وأنعش خصائصه، فباتت تمور وتدور حول معاني الفضيلة، وحول حماية جناب الدين، وحول الدفاع عن نبي الإسلام الأعظم. 

١٨- لا تستغرب من الرجل الذي كان يقف كالأسد في كبد المعارك، ويرفع سيفه في وجوه وحوش البشر، أن يكون هو نفسه الرجل الذي يدلع لسانه للحسن، إنه الرجل النبيل الذي جعل الحب في متناول الجميع. 

١٩- إذا أردت أن تشيع النبل بين الناس؛ فلا تحدثهم عن الحنان والرحمة والأبوة، يكفي أن تحدثهم عن ذلك الرجل النبيل - عليه الصلاة والسلام -. 

٢٠- إنه الرجل النبيل، الذي اتسع قلبه لكل ما هو إنساني، وبات أيقونة الإنسان العظيم، الذي لا يصعب أن يتكرر؛ بل يستحيل! 

٢١- (ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم) :

إذا، ما قيمة تصنع المهابة، وتقطيب الجبهة، وهذا أهيب إنسان تكاد تكون الابتسامة ملازمة لقسمات وجهه الوضيء؟! 

٢٢- لم يكن الطيب المطيب ينهاهم عن الأحاديث التي تدور تفاصيلها حول أيام الجاهلية، وما كان فيها من طيش ونزق!  بل كان يشاركهم بابتسامته الحبيبة، وكأنه توقيع رضا، وختم موافقة على العادية، وعدم أخذ الحياة بتكلف. 

٢٣- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطف الأرواح خطفا، ولا يتمالك القادم إليه حتى يغدو أحد أتباعه، ينهل منه العلم، والإيمان، والابتسامة. 

٢٤- لقد بات محمد نقيا إلى درجة الصفاء البحت، وبات داخله سماء مليئة بالأنوار، وعالما متخما بالطهر، وهذا هو الحيز المناسب لتنزل فيه أعظم رسالة، تتضاءل عن حملها الجبال الشامخة (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله). 

لقد بات محمد جاهزا ليكون أشد من جبال الدنيا جميعا، وأطهر من مياه الكون بأكمله، وأنور من شموس المجرة مجتمعة. 

والكتاب يقع في مئة وسبعين صفحة، من إصدارات دار الحضارة، الطبعة الأولى ١٤٤٠، في أسلوب أدبي أخاذ! يصلح للمبتدئين والمتوسطين، ولا ضير أن يقف عليه المتقدمون، فللحروف مشاعر، وللقلم وجدان، وللكاتب طريقة في شق طريقه إلى سويداء القلوب. 

وكتب/
أبو عبدالملك، عبدالرحمن بن مشعل العوفي. 
طبرجل، الخميس ١٤٤٣/٦/٢٤.

الأربعاء، 12 يناير 2022

هل تحرر العرب؟ يجيب لورنس العرب

(هل تحرر العرب؟ يجيب لورنس العرب). 

رأيت مقطعا لحاكم العراق السابق صدام حسين وهو في نقاش مع نقابة المحامين المصريين، ومما قاله بأن العرب تحرروا عام ١٩١٦ في الثورة العربية الكبرى، فهرعت إلى كتاب  (أعمدة الحكم السبعة، لمؤلفه/ توماس إدوارد لورنس، منشورات المكتب التجاري - بيروت - ط ١، ١٩٦٣) وهو المعروف ب "لورنس العرب"، وهو ضابط استخبارات بريطاني؛ لأنظر عن قرب كيف هي الأحداث على حقيقتها، ووجدت ما هالني - مع أن كل شيء في هذا الوجود متوقع -، فكتبت هذا المقال. 

 قال في ص ١٠:

(لقد انتدبت للعيش مع هؤلاء العرب كغريب عاجز عن مجاراتهم في التفكير والمعتقد، مجبرا على تدريبهم وتوجيههم في الاتجاه الذي يتفق مع مصالح بريطانيا المتحاربة مع عدوهم.

 وإذا كنت قد عجزت عن تفحص شخصيتهم؛ فقد نجحت على الأقل في إخفاء شخصيتي عنهم، واستطعت أن أندمج كليا في حياتهم دون احتجاج ولا انتقاد).

 وقال في ص ٢٥:

(لم يكن في نظري من فائدة في كسب تركيا إلى جانبنا؛ بسبب ضعفها وانهيارها الحتمي، وكنت أرى في الشعوب العربية من القوى المستترة ما يفي بغايتنا؛ إذ إن هذه الشعوب السامية الأصل؛ عظيمة في عقائدها الدينية، نشيطة مثابرة، ذات ذكاء حاد، ومقدرة سياسية، وهي تتوق اليوم - بعد أن أمضت مدة تزيد على الخمسمئة سنة تحت النير العثماني - إلى الحرية؛ لذلك عندما أعلنت تركيا الحرب على بريطانيا؛ انطلقنا نحن الذين نؤمن بالعرب؛ لنعمل على تركيز الجهود البريطانية، وخلق عالم عربي جديد في آسيا، ولم يكن عددنا كبيرا؛ بل كنا قلائل، نلتف حول "كلايتون" - رئيس قلم الاستخبارات المدنية والعسكرية في مصر -.

والحقيقة أن "كلايتون" كان يتمتع بجميع المزايا اللازمة للقائد الناجح؛ فهو رجل هادئ، ثاقب النظر، تبلغ شجاعته حد التهور في تحمل المسؤوليات، يشجع من يعمل معه، ويفتح أمام مرؤوسيه جميع الأبواب والسبل، وكان أشبه ما يكون بالماء أو الزيت في تفشيه؛ إذ يزحف بسكون وهدوء ومثابرة إلى كل شيء؛ لذلك لم يكن في الإمكان أن نعرف عما إذا كان "كلايتون" يختبئ وراء هذا العمل أو ذاك... وهو لم يتول أبدا القيادة بصورة مكشوفة ظاهرة.

كان أولنا "رونالد ستوز" _السكرتير الشرقي لدار المعتمد البريطاني، وهو أشد الانكليز في الشرق الأدنى ألمعية وذكاء، وذو كفاءة نادرة.

وعلى الرغم من أن حيويته كانت موزعة بين حبه للموسيقى والآداب والنحت والتصوير؛ فقد جنينا نحن ما بذره "ستورز" الذي كان دائما الرجل العظيم بيننا، وكان ظله يغطينا ويغطي السياسة البريطانية في الشرق كأنه الجلباب الفضفاض).

 وقال في ص ٦٦:

(كان "ويجنت" يشغل منصب سردار الجيش المصري، أما الآن؛ فقد كلف - بالإضافة إلى عمله هذا - بإدارة الشؤون العسكرية المتعلقة بالثورة العربية، بينما حصرت مهام "مكماهون" في توجيه الشؤون السياسية لهذه الحركة.

...وقد أعطى العرب المدافع والرشاشات، وقدم لهم المساعدات الفنية، وأمر الأسطول أن يبذل كل ما يستطيعه من جهد؛ لتقديم كل عون لازم للعرب).

وقال في ص ١٠٥:

(لقد خيب "فيكري" آمالي، كان يدرك أني جاهل في الأمور العسكرية، ويعتقد بسخف آرائي في الشؤون السياسية، وكنت أعرف بأنه هو العسكري المدرب الخبير، الذي تحتاج إليه قضيتنا، غير أنه كان - على ما يبدو لي - أعمى، لا يرى القوة المستترة وراء القضية العربية.

والحقيقة أن العرب قد اقترفوا الكثير من الأخطاء الفضيعة؛ بسبب قبولهم نصائح أوروبيين لم يكن في مستطاعهم أن يدركوا أن الثورة حركة قومية قائمة بذاتها، لها أهدافها وغاياتها.

كان على المستشارين أن يعلموا أن العرب إذا ما ركبوا متن عقيدة، وأسلموا زمام أمرهم إلى نبي مدجج بالسلاح، وأوكلوا إليه توجيه جهودهم غير المحدودة؛ فإن في استطاعة الأيدي الماهرة أن تصل بهم - ليس إلى دمشق فحسب -؛ بل إلى القسطنطينية أيضا).

 واعترف في ص ١٤٦ و ١٨٣  بتعطيل الخط الحديدي الحجازي. 


وقال في ص ٢٠٩ بأن وعود "مكماهون" ومعاهدة "سايكس - بيكو" جميعها كانت قد تمت عن طريق مكاتب الخارجية البريطانية.

وقال في الصفحة ذاتها:

(وبما أنني لم أكن أحمق؛ فقد رأيت أن وعودنا التي قطعناها للعرب - في حالة كسبنا للحرب -؛ ستبقى حبرا على ورق.
وهكذا كان علي - لو كنت مستشارا شريفا - أن أنصح رجالي بالعودة إلى ذويهم وديارهم عوضا عن المخاطرة بحياتهم في سبيل قصص وخداع من هذا النوع!

ولكن: ألم تكن الحماسة العربية أفضل أداة نستخدمها في حربنا في الشرق الأدنى؟

وهذا الأمر هو الذي حملني على أن أؤكد لرفاق السلاح من العرب بأن "انكلترة" ستحترم وعودها نصا وروحا. فما إن نال الثوار العرب هذا الوعد مني؛ حتى دبت فيهم الحماسة من جديد، وراحوا يحاربون بشجاعة فائقة. أما أنا، عوضا عن أن أفتخر بما كنا نحرزه معا من انتصارات؛ فقد كان يلازمني شعور مرير بالخجل؛ لعلمي بأن ما قلته؛ لا قيمة عملية له).

 وفي ص ٢٤٦؛ يقول هذا المخاتل المنافق المخرب :

(وهكذا فإن الطبيعة قسمت البلاد إلى مناطق، وجاء الإنسان يضيف إلى هذه التقسيمات تعقيدات جديدة؛ لأن من طبيعته زيادة تعقيد الطبيعة!

فكل من الأقسام الطولية - من الشمال إلى الجنوب - معزول عن غيره اصطناعيا؛ لوجود جماعات فيه متخاصمة دائما، وكان علينا أن نبسط نفوذنا على كل تلك الجماعات والفئات، وتذليل ما بينها من تباعد وتنافر، ثم حشدها متراصة في عمل مشترك ضد الأتراك. 

هنا في هذا الطلسم السياسي السوري كانت تكمن كل إمكانات فيصل، وكذلك كل العقبات التي قد تسد عليه طريق النجاح).

وفي ص ٢٨٠ يتابع هذا المنافق المجرم قوله:

(بعد ذلك عمد تلامذتي وحدهم إلى مزاولة فن النسف بالمتفجرات، وتعليمه إلى غيرهم، وكانت أخبار أرباحهم تعصف من قبيلة إلى أخرى، وكأنها موجة متعالية دائما، حتى إن "بني عطية " كتبوا إلى فيصل: "أرسل لنا أحد تلامذة لورانس، ولن نترك قطارا يمر في الجوار بعد ذلك إلا وننسفه، فأرسل لهم سعد أحد" بني عقيل" الموثوق به، فنسف بمساعدتهم قطارا مهما.

وفي الأربعة الأشهر التي تلت؛ نسف خبراؤنا المنطلقون من العقبة سبعة عشر قطارا، وبعد ذلك أصبح السفر بالقطار - بالنسبة لأعدائنا - مغامرة محفوفة بالأخطار، وفي دمشق؛ بات المسافرون يتزاحمون لحجز أمكنة لهم في مقطورات المؤخرة، كما عمد عمال الخطوط الحديدية إلى إعلان الإضراب العام؛ حفظا لأرواحهم. ثم توقف النقل المدني بالقطارات أو كاد، وأصبح من المتعذر عليهم إمكانية الإخلاء السريع عند الحاجة للمدينة المنورة أو للقدس، بعد أن تزايد الخطر البريطاني هناك).

ويقول - صاحب العمل اللصوصي المحترف للغاية في المخاتلة والنفاق واللعب على أوتار المصالح الإنسانية الوضعية الأرضعية، ومطامع النفس الدنية في استعباد الآخرين، ومحاولة استبعادهم عن مناطق التأثر والتأثير - في ص ٢٨١:

(وكنا نريد من أنصارنا أن يسيروا معنا في الطريق الوعرة لمجرد أنهم يرغبون في ذلك، وحتى أنا الأجنبي المخاتل المنافق الذي كان ينفخ في الآخرين الروح الوطنية؛ كنت أحس بشيء من الانعتاق لدى توقفي عن هذه الفكرة - الانعتاق من الذات الممقوتة، ومن قلقها الدائم -، وهذا رغم انعدام خلوص النية، وسلامة الطوية في لعبتي، وذلك لأنني لم أتمكن بالطبع من أن أغش نفسي طويلا، ولكنني كنت ألعب دوري بلباقة سرت على الجميع ما عدا "جويس" ونسيب ومحمد الضغلان.

بالنسبة للإنسان الغريزي؛ كل أمر يتشارك فيه أكثر من واحد؛ يصبح أهلا لأن تضحى النفس البشرية من أجله، وأما في نظر الإنسان العاقل؛ فالحروب الوطنية لا تقل خداعا عن الحروب الدينية، فما من شيء يستحق في هذا الوجود أن يموت الإنسان من أجله، والمعركة نفسها في جوهرها لا تحتوي على أي جزء من الفضيلة الجوهرية الأصلية، وقد كانت الحياة دائما قضية خاصة؛ لذلك ما من شيء في الوجود يبرر تسلط إنسان على آخر.

لقد وضعنا إيماننا تقريبا فوق الشبهات؛ لأنه قد يؤدي إلى أعمال قد يخلط البشر فيها بين العمل والإرادة، وخطئي؛ بل تعاملي كزعيم... كمن في كوني قد تركت المؤمنين غالبا يكتفون بصورة حسية محدودة لأهدافنا؛ هي في الواقع سلسلة من الجهود المتواصلة في التطلع إلى حلم بعيد المنال، وجماهيرنا الباحثة عن النور في الأشياء الأرضية؛ كانت أشبه بقطيع من الكلاب الشامة عند أسفل مرآة عاكسة للنور).

ويقول في ص ٣٨٨:

(وأخيرا رمت بي الصدف في أحضان العمل، وأفردت لي دورا في الثورة العربية فاسحة أمامي المجال، وسير الأحداث وحده كان يهمني. 

وبين العرب كنت الصاحي المتشكك، وكنت أحسدهم على إيمانهم الرخيص الثمن. 

وبالرغم من أنهم كانوا مخدوعين؛ فقد كانوا يحاربون العدو بكل جوارحهم، وكانوا بالتالي أكثر شجاعة وبساطة وحبورا من سائر البشر.

على إثر ذلك بدأ فكري يحيك نسجه في مجاله الكثير الغبار بين شعاعات الأفكار وجزئياتها المتراقصة، وعندئذ؛ رأيت أننا لا نربح شيئا بشرف من رفع "المجهول" هكذا إلى عرش الله؛ بل على العكس؛ يعني ذلك اختيار كبش المحرقة، والتغني بسلام موهوم.

إنه من البطولة أن يضحي المرء بنفسه من أجل سبب لا يمكنني الاعتقاد به، ولكن إرسال الآخرين إلى الموت بإخلاص من أجل صورتي المنحوتة؛ ليس سوى عمل لصوصي. 

لقد صدق هؤلاء العرب رسالتنا، وآمنوا بحقيقتها، فارتضوا الموت لأنفسهم في سبيلها.

إن قصة الثورة العربية - من أولها لآخرها -؛ ليست سوى قضية حياة أو موت بالنسبة للعرب، أما نحن؛ فقد تبنيناها حبا بأنفسنا، أو - على الأقل - طمعا بكسب مستقبل، ولم يكن في مقدورنا تحاشي ذلك إلا بخداع أنفسنا فيما نشعر ونحس به من دوافع.
إن الضحية المختارة - بإقدامها على التضحية - تضع على حسابها موهبة نادرة للتضحية... بالنسبة لنا نحن القادة؛ فإن الطريق المستقيمة لم تكن بادية لنا وسط هذه التعرجات الأخلاقية، وتلك الحلقات المجهولة المتابعة.

في فجر الثورة العربية؛ لم يكن لي أي دور، ولذلك لا أتحمل أية مسؤولية، أما عند نهايتها؛ فقد كنت مسؤولا عن الورطات التي سببتها لباعثيها).

حرره/

أبو عبدالملك، عبدالرحمن بن مشعل العوفي.

طابة المستطابة - الأربعاء ١٤٤٣/٦/٩.