(هل تحرر العرب؟ يجيب لورنس العرب).
رأيت مقطعا لحاكم العراق السابق صدام حسين وهو في نقاش مع نقابة المحامين المصريين، ومما قاله بأن العرب تحرروا عام ١٩١٦ في الثورة العربية الكبرى، فهرعت إلى كتاب (أعمدة الحكم السبعة، لمؤلفه/ توماس إدوارد لورنس، منشورات المكتب التجاري - بيروت - ط ١، ١٩٦٣) وهو المعروف ب "لورنس العرب"، وهو ضابط استخبارات بريطاني؛ لأنظر عن قرب كيف هي الأحداث على حقيقتها، ووجدت ما هالني - مع أن كل شيء في هذا الوجود متوقع -، فكتبت هذا المقال.
قال في ص ١٠:
(لقد انتدبت للعيش مع هؤلاء العرب كغريب عاجز عن مجاراتهم في التفكير والمعتقد، مجبرا على تدريبهم وتوجيههم في الاتجاه الذي يتفق مع مصالح بريطانيا المتحاربة مع عدوهم.
وإذا كنت قد عجزت عن تفحص شخصيتهم؛ فقد نجحت على الأقل في إخفاء شخصيتي عنهم، واستطعت أن أندمج كليا في حياتهم دون احتجاج ولا انتقاد).
وقال في ص ٢٥:
(لم يكن في نظري من فائدة في كسب تركيا إلى جانبنا؛ بسبب ضعفها وانهيارها الحتمي، وكنت أرى في الشعوب العربية من القوى المستترة ما يفي بغايتنا؛ إذ إن هذه الشعوب السامية الأصل؛ عظيمة في عقائدها الدينية، نشيطة مثابرة، ذات ذكاء حاد، ومقدرة سياسية، وهي تتوق اليوم - بعد أن أمضت مدة تزيد على الخمسمئة سنة تحت النير العثماني - إلى الحرية؛ لذلك عندما أعلنت تركيا الحرب على بريطانيا؛ انطلقنا نحن الذين نؤمن بالعرب؛ لنعمل على تركيز الجهود البريطانية، وخلق عالم عربي جديد في آسيا، ولم يكن عددنا كبيرا؛ بل كنا قلائل، نلتف حول "كلايتون" - رئيس قلم الاستخبارات المدنية والعسكرية في مصر -.
والحقيقة أن "كلايتون" كان يتمتع بجميع المزايا اللازمة للقائد الناجح؛ فهو رجل هادئ، ثاقب النظر، تبلغ شجاعته حد التهور في تحمل المسؤوليات، يشجع من يعمل معه، ويفتح أمام مرؤوسيه جميع الأبواب والسبل، وكان أشبه ما يكون بالماء أو الزيت في تفشيه؛ إذ يزحف بسكون وهدوء ومثابرة إلى كل شيء؛ لذلك لم يكن في الإمكان أن نعرف عما إذا كان "كلايتون" يختبئ وراء هذا العمل أو ذاك... وهو لم يتول أبدا القيادة بصورة مكشوفة ظاهرة.
كان أولنا "رونالد ستوز" _السكرتير الشرقي لدار المعتمد البريطاني، وهو أشد الانكليز في الشرق الأدنى ألمعية وذكاء، وذو كفاءة نادرة.
وعلى الرغم من أن حيويته كانت موزعة بين حبه للموسيقى والآداب والنحت والتصوير؛ فقد جنينا نحن ما بذره "ستورز" الذي كان دائما الرجل العظيم بيننا، وكان ظله يغطينا ويغطي السياسة البريطانية في الشرق كأنه الجلباب الفضفاض).
وقال في ص ٦٦:
(كان "ويجنت" يشغل منصب سردار الجيش المصري، أما الآن؛ فقد كلف - بالإضافة إلى عمله هذا - بإدارة الشؤون العسكرية المتعلقة بالثورة العربية، بينما حصرت مهام "مكماهون" في توجيه الشؤون السياسية لهذه الحركة.
...وقد أعطى العرب المدافع والرشاشات، وقدم لهم المساعدات الفنية، وأمر الأسطول أن يبذل كل ما يستطيعه من جهد؛ لتقديم كل عون لازم للعرب).
وقال في ص ١٠٥:
(لقد خيب "فيكري" آمالي، كان يدرك أني جاهل في الأمور العسكرية، ويعتقد بسخف آرائي في الشؤون السياسية، وكنت أعرف بأنه هو العسكري المدرب الخبير، الذي تحتاج إليه قضيتنا، غير أنه كان - على ما يبدو لي - أعمى، لا يرى القوة المستترة وراء القضية العربية.
والحقيقة أن العرب قد اقترفوا الكثير من الأخطاء الفضيعة؛ بسبب قبولهم نصائح أوروبيين لم يكن في مستطاعهم أن يدركوا أن الثورة حركة قومية قائمة بذاتها، لها أهدافها وغاياتها.
كان على المستشارين أن يعلموا أن العرب إذا ما ركبوا متن عقيدة، وأسلموا زمام أمرهم إلى نبي مدجج بالسلاح، وأوكلوا إليه توجيه جهودهم غير المحدودة؛ فإن في استطاعة الأيدي الماهرة أن تصل بهم - ليس إلى دمشق فحسب -؛ بل إلى القسطنطينية أيضا).
واعترف في ص ١٤٦ و ١٨٣ بتعطيل الخط الحديدي الحجازي.
وقال في ص ٢٠٩ بأن وعود "مكماهون" ومعاهدة "سايكس - بيكو" جميعها كانت قد تمت عن طريق مكاتب الخارجية البريطانية.
وقال في الصفحة ذاتها:
(وبما أنني لم أكن أحمق؛ فقد رأيت أن وعودنا التي قطعناها للعرب - في حالة كسبنا للحرب -؛ ستبقى حبرا على ورق.
وهكذا كان علي - لو كنت مستشارا شريفا - أن أنصح رجالي بالعودة إلى ذويهم وديارهم عوضا عن المخاطرة بحياتهم في سبيل قصص وخداع من هذا النوع!
ولكن: ألم تكن الحماسة العربية أفضل أداة نستخدمها في حربنا في الشرق الأدنى؟
وهذا الأمر هو الذي حملني على أن أؤكد لرفاق السلاح من العرب بأن "انكلترة" ستحترم وعودها نصا وروحا. فما إن نال الثوار العرب هذا الوعد مني؛ حتى دبت فيهم الحماسة من جديد، وراحوا يحاربون بشجاعة فائقة. أما أنا، عوضا عن أن أفتخر بما كنا نحرزه معا من انتصارات؛ فقد كان يلازمني شعور مرير بالخجل؛ لعلمي بأن ما قلته؛ لا قيمة عملية له).
وفي ص ٢٤٦؛ يقول هذا المخاتل المنافق المخرب :
(وهكذا فإن الطبيعة قسمت البلاد إلى مناطق، وجاء الإنسان يضيف إلى هذه التقسيمات تعقيدات جديدة؛ لأن من طبيعته زيادة تعقيد الطبيعة!
فكل من الأقسام الطولية - من الشمال إلى الجنوب - معزول عن غيره اصطناعيا؛ لوجود جماعات فيه متخاصمة دائما، وكان علينا أن نبسط نفوذنا على كل تلك الجماعات والفئات، وتذليل ما بينها من تباعد وتنافر، ثم حشدها متراصة في عمل مشترك ضد الأتراك.
هنا في هذا الطلسم السياسي السوري كانت تكمن كل إمكانات فيصل، وكذلك كل العقبات التي قد تسد عليه طريق النجاح).
وفي ص ٢٨٠ يتابع هذا المنافق المجرم قوله:
(بعد ذلك عمد تلامذتي وحدهم إلى مزاولة فن النسف بالمتفجرات، وتعليمه إلى غيرهم، وكانت أخبار أرباحهم تعصف من قبيلة إلى أخرى، وكأنها موجة متعالية دائما، حتى إن "بني عطية " كتبوا إلى فيصل: "أرسل لنا أحد تلامذة لورانس، ولن نترك قطارا يمر في الجوار بعد ذلك إلا وننسفه، فأرسل لهم سعد أحد" بني عقيل" الموثوق به، فنسف بمساعدتهم قطارا مهما.
وفي الأربعة الأشهر التي تلت؛ نسف خبراؤنا المنطلقون من العقبة سبعة عشر قطارا، وبعد ذلك أصبح السفر بالقطار - بالنسبة لأعدائنا - مغامرة محفوفة بالأخطار، وفي دمشق؛ بات المسافرون يتزاحمون لحجز أمكنة لهم في مقطورات المؤخرة، كما عمد عمال الخطوط الحديدية إلى إعلان الإضراب العام؛ حفظا لأرواحهم. ثم توقف النقل المدني بالقطارات أو كاد، وأصبح من المتعذر عليهم إمكانية الإخلاء السريع عند الحاجة للمدينة المنورة أو للقدس، بعد أن تزايد الخطر البريطاني هناك).
ويقول - صاحب العمل اللصوصي المحترف للغاية في المخاتلة والنفاق واللعب على أوتار المصالح الإنسانية الوضعية الأرضعية، ومطامع النفس الدنية في استعباد الآخرين، ومحاولة استبعادهم عن مناطق التأثر والتأثير - في ص ٢٨١:
(وكنا نريد من أنصارنا أن يسيروا معنا في الطريق الوعرة لمجرد أنهم يرغبون في ذلك، وحتى أنا الأجنبي المخاتل المنافق الذي كان ينفخ في الآخرين الروح الوطنية؛ كنت أحس بشيء من الانعتاق لدى توقفي عن هذه الفكرة - الانعتاق من الذات الممقوتة، ومن قلقها الدائم -، وهذا رغم انعدام خلوص النية، وسلامة الطوية في لعبتي، وذلك لأنني لم أتمكن بالطبع من أن أغش نفسي طويلا، ولكنني كنت ألعب دوري بلباقة سرت على الجميع ما عدا "جويس" ونسيب ومحمد الضغلان.
بالنسبة للإنسان الغريزي؛ كل أمر يتشارك فيه أكثر من واحد؛ يصبح أهلا لأن تضحى النفس البشرية من أجله، وأما في نظر الإنسان العاقل؛ فالحروب الوطنية لا تقل خداعا عن الحروب الدينية، فما من شيء يستحق في هذا الوجود أن يموت الإنسان من أجله، والمعركة نفسها في جوهرها لا تحتوي على أي جزء من الفضيلة الجوهرية الأصلية، وقد كانت الحياة دائما قضية خاصة؛ لذلك ما من شيء في الوجود يبرر تسلط إنسان على آخر.
لقد وضعنا إيماننا تقريبا فوق الشبهات؛ لأنه قد يؤدي إلى أعمال قد يخلط البشر فيها بين العمل والإرادة، وخطئي؛ بل تعاملي كزعيم... كمن في كوني قد تركت المؤمنين غالبا يكتفون بصورة حسية محدودة لأهدافنا؛ هي في الواقع سلسلة من الجهود المتواصلة في التطلع إلى حلم بعيد المنال، وجماهيرنا الباحثة عن النور في الأشياء الأرضية؛ كانت أشبه بقطيع من الكلاب الشامة عند أسفل مرآة عاكسة للنور).
ويقول في ص ٣٨٨:
(وأخيرا رمت بي الصدف في أحضان العمل، وأفردت لي دورا في الثورة العربية فاسحة أمامي المجال، وسير الأحداث وحده كان يهمني.
وبين العرب كنت الصاحي المتشكك، وكنت أحسدهم على إيمانهم الرخيص الثمن.
وبالرغم من أنهم كانوا مخدوعين؛ فقد كانوا يحاربون العدو بكل جوارحهم، وكانوا بالتالي أكثر شجاعة وبساطة وحبورا من سائر البشر.
على إثر ذلك بدأ فكري يحيك نسجه في مجاله الكثير الغبار بين شعاعات الأفكار وجزئياتها المتراقصة، وعندئذ؛ رأيت أننا لا نربح شيئا بشرف من رفع "المجهول" هكذا إلى عرش الله؛ بل على العكس؛ يعني ذلك اختيار كبش المحرقة، والتغني بسلام موهوم.
إنه من البطولة أن يضحي المرء بنفسه من أجل سبب لا يمكنني الاعتقاد به، ولكن إرسال الآخرين إلى الموت بإخلاص من أجل صورتي المنحوتة؛ ليس سوى عمل لصوصي.
لقد صدق هؤلاء العرب رسالتنا، وآمنوا بحقيقتها، فارتضوا الموت لأنفسهم في سبيلها.
إن قصة الثورة العربية - من أولها لآخرها -؛ ليست سوى قضية حياة أو موت بالنسبة للعرب، أما نحن؛ فقد تبنيناها حبا بأنفسنا، أو - على الأقل - طمعا بكسب مستقبل، ولم يكن في مقدورنا تحاشي ذلك إلا بخداع أنفسنا فيما نشعر ونحس به من دوافع.
إن الضحية المختارة - بإقدامها على التضحية - تضع على حسابها موهبة نادرة للتضحية... بالنسبة لنا نحن القادة؛ فإن الطريق المستقيمة لم تكن بادية لنا وسط هذه التعرجات الأخلاقية، وتلك الحلقات المجهولة المتابعة.
في فجر الثورة العربية؛ لم يكن لي أي دور، ولذلك لا أتحمل أية مسؤولية، أما عند نهايتها؛ فقد كنت مسؤولا عن الورطات التي سببتها لباعثيها).
حرره/
أبو عبدالملك، عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طابة المستطابة - الأربعاء ١٤٤٣/٦/٩.