السبت، 5 فبراير 2022

ريان في غيابة الجب دروس وعبر

(ريان في غيابة الجب، دروس وعبر)

الحمدلله الذي جبر بعدما كسر، وأعطى وأكثر، ولطف إذ قدر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز المقتدر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبشر بجنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحبه وزوجاته الميامين الغرر، وبعد:

فإنه في عصر يوم الثلاثاء بتاريخ ١٤٤٣/٦/٣٠؛ سقط طفل مغربي يبلغ من العمر خمس سنوات في بئر ارتوازية في المغرب العربي الإسلامي، ووصل إلى عمق ٣٢ مترا، من أصل ستين مترا تقريبا، وشاهدت تضامنا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة المغرد - وهو ما يسمى ب "تويتر" -، وصلت المشاهدات تقريبا إلى ٥٠٠ ألف، وتجمهر كثرة من الناس حول البئر، ونقلت الأحداث أولا بأول، وكانوا قد أنزلوا له حبال الأكسجين، وأمدوه بطعام، وأنزلوا كذلك الكاميرا، وكنا نراه يقترب من الأكسجين، ويمد يديه ويأكل، والإجهاد باد عليه...

وقد كتبت بضعة أبيات إزاء هذا الحدث في يوم الجمعة ونقحتها في يوم السبت، حيث أشار علي أستاذي الفاضل فيصل بن بشير المطرفي الصاعدي بتعديل شطر البيت الأخير، وأن شطرها الأول به علة حذف وأنني لم ألتزمها، فكتبت قصيدة أخرى كاملة، ثم قال أنت المصيب، ولا يجب التزام تلك العلة، لكنني كنت مشغولا بمتابعة هذا الحدث، وهذا ما حدث، غيرت البيت الأخير، وها هي أمامكم، أقول فيها:

(ريان) 

ريان يا ريان يا ريانُ * هون عليك فربك الرحمن
لا تبتئس وارج الإله ففضله * عم الورى والجود والإحسان
أبشر فربك قادر ومهيمن * وهو اللطيف البر والديان
من رد يوسف بعد طول غيابه * حتى استقر القلب والوجدان؟!
من حول النيران حول خليله * فخبت وخاب السعي والنكران؟!
ومن الذي نجى المسيح برفعة * نحو السماء فكسرت صلبان؟!
ومن الذي أنجى محمد موقنا * في غاره فتلاشت الأحزان؟!
ومن الذي فلق النوى سبحانه * والصبح إلا ربنا المنان؟!
ومن الذي جبار من أوصافه * جبر الكسير؟! وربنا الحنان
فأدم حبال وصاله مترجيا * واهتف به رحمان يا رحمان

ولي مع هذا الموقف دروس وعبر، أسردها كالآتي:

١- من ركائز الإيمان: الإيمان بالقضاء والقدر، وأن كل شيء قد علمه الله وكتبه وشاءه وخلقه وأوجده، قال تعالى : (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، وقال: (إن الله بكل شيء عليم) و (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما)، وقال: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)، وقال: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين).

وحقيقة الإيمان بالقضاء والقدر تغيب عن كثير من الناس عند الأحداث العصيبة، فتطيش ألباب كثير منهم، مما يوقعهم في مخالفات شرعية؛ كاللعن والدعاء بالإثم، واللطم وضرب الخدود وشق الجيوب، أو الانتحار، أو النكوص على الأعقاب، وهو الكفر أو الشرك والإلحاد، عياذا بالله.

٢- الإيمان بالقضاء والقدر سياج أمان من القلق والتوتر والاضطراب، فهو مسكن ومطمئن، وهو من أنجع الأدوية في علاج أمراض النفس الإنسانية، وعلى قدر توثيق صلة الروح بحقيقة الإيمان بالقضاء والقدر؛ تهدأ النفس، وتتزكى الروح، ويستقر الخاطر، ويرتاح الفؤاد، وبضده؛ يحصل الضد، ومن ذاق؛ عرف، ومن عرف؛ اغترف.

٣- رأيت الطفل ريان وهو في تلك الحفرة الضيقة، ويدي على قلبي، ورأيت كثيرا من الناس يتابعون حالته بلهف وشوق لخروجه سالما معافى، ويخشون مع ذلك من حصول مكروه له، فتذكرت أهوال يوم الموقف، وكيف تزلف الجنة للمتقين، وكيف تقرب الجحيم للكافرين، كما قال رب العالمين : (وأزلفت الجنة للمتقين* وبرزت الجحيم للغاوين)، وكيف (يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه).

٤- تذكرت كذلك ما نعيش فيه من نعم، وما دفعت عنا من نقم، وكيف أن الصحة والعافية مع الإيمان نعمة لا توازيها أي نعمة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فيجحدون، أو يطمعون، أو إلى ما في أيدي الناس ينظرون، فلا يشكرون؛ بل يبطرون ويكفرون، ويظلون يتسخطون على الله ربهم، ولو كانوا عبيدا حقا؛ لشكروا، ومن ذنوبهم وتقصيرهم استغفروا، وعلى ما في أيديهم أنظارهم قصروا، وصدق الله : (وقليل من عبادي الشكور). 

٥- تذكرت كذلك أن ما بيدي ويدك ليس بفضل ذكائي ولا ذكائك، وأن ما دفع عنا من نقم كذلك، فمن أعطى ومن منع هو الله، ونحن نردد بعد كل فريضة : (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، وقال الله: (وما بكم من نعمة فمن الله) 

٦- وتذكرت أيضا أن الله هو الخالق، والمخلوق مخلوق، عبد مسخر مربوب لربه وسيده ومولاه، يتصرف فيه كيفما يشاء (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) وأيضا (ألا له الخلق والأمر) وأيضا (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)، فمن علل وحكم وأسرار الابتلاء: التوبة والإقلاع والندم والرجوع، والتذكير بذلكم اليوم المهول المفزع، والتذكير بالقبر وظلمته قبل الحشر وجمعته. 

٧- كذلك استوقفني نقل الحدث على مدار الثانية، والتفاعل الكبير الواسع للناس معه، وهذا ما يبين خطر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، فهي تسير أمم ومجتمعات في زاوية ما تريد من تأثير بقذف أفكار أو وضع مناهج أو خطط ترجو تنفيذها، وهي "الحرب الباردة" أو "الحارة" لعلها، لا أدري، وهي حرب "الغزو الفكري" الممنهجهة، فوجب الحذر في التعامل مع هذا الإعلام بكافة صوره وأشكاله، وتسوير الإنسان نفسه وروحه وعقله وفكره بسياج إيماني، ومراقبة ذاتية نابعة من قلب موحد مصدق موقن بأحقية ما هو عليه، ولا يتأثر عند سماع صوت كل نابح أو ناعق! 

٨- أبهجني ما رأيت من قوة التفاعل والمتابعة، ولكنني أتألم عندما أرى اختلال الموازين في هذا العالم الذي يموج بفتن عظيمة، ومنها ما يحدث في سوريا من مجازر بحق أهل السنة والجماعة وغيرهم من المظلومين في العراق ولبنان وليبيا وفي فلسطين والهند والصين وأفريقيا وأراكان، ونرى صمتا مطبقا من منظمات الدجل والزور؛ ما يسمى ب "منظمات حقوق الإنسان" وما هي إلا حقوق الكافر والشيطان، و "مجلس الأمن" وما هو إلا "مجلس الخوف". هذا العالم - باختصار - يعج بالأنا، ومتضخم بالمتناقضات، ولا يهمه شأن المسلم، طبعا إلا إذا كان هذا المسلم ذا قوة ومنعة، فعندها يحسب له ألف ألف حساب. 

٩- وأخيرا: في تمام الساعة ٣٦ : ١١ مساء يوم السبت خرج الطفل ريان، وبعد ربع ساعة تقريبا قرأت خبر وفاته، فلا نقول إلا ما يرضي ربنا : "إنا لله وإنا إليه راجعون"، والكل سيموت، إما على فراشه، أو في حادث، أو بمرض، لكن الشأن هو على أي حالة سيموت؟! إن مات على التوحيد والسنة، فقد نال الفوز العظيم، أو على النفاق والشرك والكفر، فنسأل الله العافية والسلامة، و "السلامة لا يعدلها شيء"، فوجب الاستعداد للموت، بتذكره وعدم نسيانه، ومحبة لقاء الله سبحانه، فكما جاء في الحديث: "من أحب لقاء الله؛ أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله؛ كره الله لقاءه)، خرجه البخاري في صحيحه برقم (٦٥٠٨)، ومسلم برقم (٢٦٨٦)، رحم الله الجميع. 

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي. 
طبرجل - السبت ١٤٤٣/٧/٤

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق