(ابن باديس... نهضة أمة)
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن قراءة الكتب الأدبية والقصصية لعظماء الإسلام - من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الأفذاذ من العلماء والمجاهدين والمجددين والمصلحين -؛ لهو من المشهيات لدخول عالم القراءة الفسيح، والتلذذ بصرف الوقت في تقليب صفحات الكتب، وشم رائحة الورق، والعزلة المحمودة...
وهذا واقع ملموس ومجرب...
وعني أنا فأقول: إن من أهم أسباب دخولي عالم القراءة وطلب العلم والمعرفة هو ما أشرت إليه آنفا؛ حيث أهداني والدي - حفظه الله في الدنيا ورفعه منازل في الأخرى - بعضا من الكتب القيمة لطالب العلم المبتدئ؛ فكان مما أهدانيه (صور من حياة الصحابة) و (صور من حياة التابعين)؛ كلاهما للدكتور/ عبدالرحمن رأفت الباشا - رحمه الله تعالى -، فكانت نقطة البداية للدخول في هذا العالم الجميل، عالم النور والعقل والفكر والثقافة...
ومرت سنون، فجردت (ذكريات علي الطنطاوي) - رحمه الله تعالى - في شهرين ونصف تقريبا، وسطرت مقالا بعنوان (شذرات من ذكريات علي الطنطاوي) وهو عنوان كتابي الذي سيصدر قريبا بعون الله وتوفيقه...
ومرت أشهر، فكان مما وقع في يدي كتاب ثري جدا، قصصي سردي؛ حيث يحكي قصة عالم نحرير، ومجاهد كبير، وفقيه ومفسر ومحدث، رجل موسوعي بحق، طرد فلول الغازين من الجزائر شر طردة، نعم فرنسا، طردها بسلاح العلم والتعليم، والكفاح المرير، والجهاد الطويل، إنه ابن باديس - عليه رحمات رب العالمين -، والكتاب بعنوان (أيام ابن باديس) لمؤلفه الشيخ د/ حسن الحسيني - وفقه الله لمرضاته -...
وقد تأثرت من قبل بابن جبرين - عليه رحمات رب العالمين - لما قرأت الكتاب الذي في سيرته، وهو بعنوان (أعجوبة العصر)...
ابن جبرين، علي الطنطاوي، والآن ابن باديس، لله هؤلاء الرجال الأفذاذ، لله هم، لله درهم، لله آباؤهم...
(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). الأحزاب.
وهذه بعض النقول من الكتاب المذكور، وهو في مجلد واحد لطيف، يقع في ٢٨٢ صفحة من القطع المتوسط:
١- فسر القرآن الكريم كله خلال خمس وعشرين سنة في دروسه اليومية! ص ٨٠.
٢- أهداف خطة ابن باديس الإصلاحية:
أ- تربية الناس على العقيدة الصافية.
ب- تعليم العلم الشرعي.
ج- محاربة الجهل.
د- نشر اللغة العربية.
ه- نقد الطرق الصوفية.
و- زرع معاداة المستعمر في قلوب الناس.
ز- توحيد الشعب الجزائري تحت راية الإسلام. ص ١١٧.
٣- تحديد ملامح خطة ابن باديس، وهي على ثلاث مراحل:
الأولى: التعليم.
الثانية: الصحافة.
الثالثة: تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ص ١١٧.
٤- ابن باديس: إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإذا كانت لهم جماعة منظمة؛ تفكر وتدبر، وتتشاور وتتأثر، وتنهض لجلب المصلحة، ولدفع المضرة، متساندة في العمل على فكر وعزيمة. ص ١٢٢.
٥- ابن باديس: أنا أحارب الاستعمار بالعلم، ومتى انتشر التعليم في أرض؛ أجدبت على الاستعمار، وشعر في النهاية بسوء المصير. ص ١٢٤.
٦- جهده الإصلاحي في المرحلة الأولى كان في غضون سبع عشرة سنة... وكانت الدروس العلمية تجذب طلاب العلم، ودروس الوعظ تجذب عوام الناس. ص ١٢٥.
٧- قضى ابن باديس ثماني عشرة سنة في التعليم والتربية والعمل الهادي، بعيدا عن الضوضاء وأحداث الصخب، حتى لا يثير انتباه المستعمر الفرنسي تجاهه خلال هذه الفترة، وهذه غاية في الفطنة والدهاء. ص ١٣١.
٨- سياسته التعليمية هي التركيز على الكيف لا على الكم... يقول البشير الإبراهيمي - رحمه الله تعالى - وهو من أبرز شيوخه ومن تأثر بهم: كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء؛ هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة - ولو مع علم قليل -، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا! ص ١٣١.
٩- ابن باديس: إذا أردنا أن نكون رجالا؛ فعلينا أن نكون أمهات دينات، ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليما دينيا، وتربيتهن تربية إسلامية، وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين، فمحال أن نرجو منهن أن يكون لنا عظماء الرجال! ص ١٣٥.
١٠- وتصدى لدعاة تحرير المرأة ولقاسم أمين في كتابه (تحرير المرأة)، فكان مما قال:
وإذا أردتم إصلاحها الحقيقي؛ فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها، قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها؛ فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها، وأما حجاب الستر؛ فإنه ما ضرها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات بغداد، وبنات قرطبة، وبنات بجاية مكانة عالية، ما ضرها في العلم وهن متحجبات! ص ١٣٨.
١١- أولى الشيخ - عليه رحمات رب العالمين - تعليم المرأة عناية بالغة، فقد خصص للنساء دروسا أسبوعية على مدار الخمس سنوات من آخر سني حياته في المسجد الأخضر، وغيره من مساجد قسنطينة، وكن يحضرن بأعداد كبيرة، حتى ضاقت عليهن جنبات المسجد. ص ١٣٩،بتصرف يسير.
١٢- ابن باديس: إذا علمت ولدا؛ فقد علمت فردا، وإذا علمت بنتا؛ فقد علمت أمة! ص ١٤٢.
١٣- ابن باديس: إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت؛ بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد؛ في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج! ص ١٤٧.
١٣- ابن باديس: الواجب على كل مسلم في كل مكان وزمان، أن يعتقد عقدا يتشربه قلبه، وتسكن له نفسه، وينشرح له صدره، ويلهج به لسانه، وتنبني عليه أعماله: أن دين الله تعالى من عقائد الإيمان، وقواعد الإسلام، وطرائق الإحسان؛ إنما هو في القرآن والسنة الصحيحة وعمل السلف الصالح - من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين -، وأن كل ما خرج عن هذه الأصول، ولم يحظ لديها بالقبول - قولا كان أو عملا، أو عقدا أو حالا -؛ فإنه باطل من أصله، مردود على صاحبه، كائنا من كان، في كل زمان أو مكان؛ فاحفظوها واعملوا بها؛ تهتدوا وترشدوا إن شاء الله تعالى. ص ١٧٦.
١٤- ابن باديس: تستطيع الظروف أن تخيفنا، ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا. ١٨١.
١٥- أنشأ ابن باديس المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة سنة ١٩٢٥. ص ١٨١.
١٦- تعرض الشيخ الإمام لمحاولة اغتيال، أدخل على إثرها المستشفى، لكنه عفى عن الجاني، وقال: إن الرجل غرر به، لا يعرفني ولا أعرفه، فلا عداوة بيني وبينه، أطلقوا سراحه! وهذا وربي لهو البلاء المبين، ولكنه لم ينتقم لنفسه، وهذه وربي أخلاق الكبار! ص ١٨٨.
١٧- درس ابن باديس - رحمه الله - التفسير على الشيخ محمد طاهر عاشور، والعلامة محمد الخضر حسين - رحمهما الله -. ص ١٩٣.
١٨- ابن باديس: إننا - والحمدلله - نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم! ص ١٩٦.
١٩- ابن باديس: غايتنا التي ستتحقق أن يكون القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها. ص ١٩٧.
٢٠- ابن باديس: القرآن إمامنا، والسنة سبيلنا، والسلف الصالح قدوتنا، وخدمة الإسلام والمسلمين وإيصال الخير لجميع سكان الجزائر غايتنا. ص ١٩٧.
٢١- إني أعاهدكم على أن أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما، وإنها لواجبات، وإني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدي لكم. ص ١٩٧.
٢٢- في وفد المؤتمر إلى باريس؛ ذهب ابن باديس - عليه رحمة الله - مع ثلة من العلماء والمناضلين؛ للمطالبة باستقلال الجزائر عن المحتل الفرنسي الغاشم الظالم، والتقوا وزير الحربية هناك، وصارح الأخير وفد المؤتمر بعدم إمكانية الموافقة على هذه المطالب - خاصة المطلب المتعلق بالحالة الشخصية الإسلامية، وعلاقتها بالجنسية الفرنسية -؛ فأظهر ابن باديس - رحمه الله - تمسكه بهذه المطالب؛ بحجة تمثيلها الحد الأدنى لتطلعات الجزائريين الأحرار.
واشتد النقاش بين رجال الوفد وبين وزير الحربية "إدوار دلادييه"، إلى درجة أنه احتد وجابه الوفد بقوله: لا تنسوا أيها السادة، إن فرنسا معها مدافع طويلة! فوجم القوم كلهم، إلا ابن باديس - عليه شآبيب الغفران - الذي ما كاد يسمع تلك الكلمة؛ حتى ردها عليه بمثل حدته: وأنت لا تنس أيها السيد، مع الجزائر مدافع أطول، معها الله!
عاد الوفد خائبا وهو حسير، سوى هذا المجاهد البطل الهمام؛ حيث عاد ثائرا هائجا، فأطلقها قذيفة باديسية:
شعب الجزائر مسلم * وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله * أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجا له * رام المحال من الطلب
يا نشء أنت رجاؤنا * وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها * وخض الخطوب ولا تهب
وارفع منار العدل وال * إحسان واصدم من غصب
واقلع جذور الخائنين * فمنهم كل العطب
وأذق نفوس الظالمين * السم يمزج بالرهب
واهزز نفوس الجامدين * فربما حي الخشب!
من كان يبغي ودنا * فعلى الكرامة والرحب
أو كان يبغي ذلنا * فله المهانة والحرب
هذا نظام حياتنا * بالنور خط وباللهب
حتى يعود لقومنا * من مجدهم ما قد ذهب
هذا لكم عهدي به * حتى أوسد في الترب
فإذا هلكت فصيحتي * تحيا الجزائر والعرب!
أخذ الشعب يردد هذا النشيد، حتى جنت فرنسا مما يحدث!
غير ابن باديس - عليه رحمات رب العالمين - خطابه في هذه المرحلة من الخطاب السلمي الهادئ، إلى خطاب الكفاح والنضال؛ حيث خاطب الشعب قائلا: إن الوفود لا تستطيع أن تغير شيئا، ولكن الشعب هو الذي يستطيع أن يغير كل شيء، ومتى نفض الشعب عن نفسه غبار الجهل والغفلة؛ أدرك وجوب تسيير شؤونه بنفسه، وأخذ يضع كل شيء في موضعه! ص ٢٢٦.
٢٣- رفضت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين - والتي يرأسها ابن باديس - إرسال برقية تضامن لفرنسا - وهذا قبيل الحرب العالمية الثانية -، وكان مما قاله ابن باديس في الاجتماع العام للجمعية أمام الجماهير الغفيرة: أقول صراحة - واجتماعنا هذا لا يخلو من جواسيس رسميين أو غير رسميين - إني لن أمضي البرقية، ولن أرسلها ولو قطعوا رأسي، وماذا تستطيع فرنسا أن تعمل؟! إن لنا حياتين: حياة مادية، وحياة أدبية روحية! فتستطيع القضاء على حياتنا المادية، بقتلنا ونفينا وسجننا وتشريدنا، ولن تستطيع القضاء على عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا، فتحشرنا في زمرة المتملقين، إننا قررنا السكوت! ص ٢٤٥.
٢٤- اندلعت الحرب العالمية الثانية، فاشتدت الضغوط على هذا الشعب المظلوم المكبوت، وكان من جراء ذلك أن فرضت على ابن باديس - رحمه الله تعالى - الإقامة الجبرية، وعلى رفيق دربه؛ حيث نفي إلى جنوب الجزائر، فأمضى فيها ثلاثة أعوام! ص ٢٤٦.
٢٥- تعرض رفيق درب ابن باديس البشير الإبراهيمي إلى إغراءات من قبل الإدارة الفرنسية، أن يقلدوه منصب "مفتي الجزائر"، أو يستحدثون له منصبا جديدا، وهو "شيخ الإسلام"، في مقابل أن ينشر الإبراهيمي مواقف تؤيد فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وكرروا عليه ذلك؛ لكنه يرفض في كل مرة، ويستعلي بالله، وبنفسه التي لم تذل إلا له - جل في علاه -.
فلجؤوا إلى الترهيب، قالوا له: ارجع إلى أهلك وودعهم، وأحضر حقيبتك، فرد عليهم فورا برباطة جأش عجيبة، ونفس لم تعتد إلا على ركوب المجد والعزة: قد ودعتهم، وحقيبتي جاهزة! ص ٢٥٢،بتصرف يسير.
٢٦- توفي ابن باديس وكان قد بلغ الخمسين من عمره، ولم تك في رأسه شعرة بيضاء واحدة! وحضر جنازته ما يربو على الخمسين ألف نسمة! ص ٢٥٧،بتصرف يسير.
٢٧- اختلف في سبب وفاته، فقيل: مات بسبب مرض ألم به.
وقيل: هما وغما وكمدا.
وقيل: مسموما من طرف الإدارة الفرنسية.
وقيل: بسبب الإرهاق والتعب. ص ٢٥٧.
٢٨- ابن باديس: الجاهل يمكن أن تعلمه، والجافي يمكن أن تهذبه، ولكن الذليل الذي نشأ على الذل، يتعذر أن تغرس في نفسه عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال! ص ٢٦٢.
٢٩- ابن باديس: والله لو قالت لي فرنسا: قل لا إله إلا الله؛ لما قلتها! ص ٢٦٦.
٣٠- ابن باديس: شغلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتاب! ص ٢٦٩.
حرره/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة المطيبة- الاثنين ١٤٤١/٨/٦