(وباء كرونا... نظرات وعبرات)
الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبرحمته تدفع الشرور والآفات، وبعدله قامت الأرض والسماوات، وبفضله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدبر الأمور، ويصرف الدهور، ويعلم ما تكنه الصدور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، جاءنا بالهدى المبين، والحق المستبين؛ لينذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين.
صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه، ما تعاقب النيران، وعلى آل بيته المطهرين وصحابته ذوي الفضل والإحسان، وعلى كل من سار على دربهم، واقتفى آثارهم إلى يوم يشيب فيه الولدان.
وبعد:
فهذه عبر وعظات، ونظرات وعبرات حول جائحة "كورونا" الذي عم سائر الأقطار، ومختلف الجهات.
فأقول - مستعينا بالله وحده العلي العظيم - :
إن الناظر في كلام الله - سبحانه وبحمده - لا يخفى عليه كثير مما يخفى على غيره من الحكم والأسرار في نزول الحادثات، وانصباب الشرور والمهلكات - من الطواعين الفتاكة، والأمراض الوبائية القاتلة، وغيرها من الفقر وسائر الجوائح والملمات -.
وإن المسلم الذي يؤمن بالله حقا، وبرسوله - صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه - حقا؛ ليتبين له - عندما يقرأ كتاب ربه مستيقنا به، جامعا لشتات قلبه عليه - ما يلي:
أولا: أن الله عليم حكيم، فعلمه أحاط بكل شيء، وحكمته لا تبلغ منتهاها العقول والأفهام، وهذا يقتضي من العبد المسلم القانت الأواه المنيب الحليم: التسليمَ المطلق لأوامر الله وأقداره الشرعية والكونية؛ فلا اعتراض على حكمه وقدره، ولا جزع ولا تسخط؛ بل تفويض وتوكل، وإنابة وخضوع وخشوع، واستكانة وتضرع وابتهال.
ثانيا: أن لله سننا لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحدا، فمن عرف سنن الله؛ عرف كيف يتعامل إزاءها.
ومن سنن الله: أنه خلق هذه الدار للابتلاء والامتحان "ليبلوكم أيكم أحسن عملا". الملك.
وأنه يمتع الكافرين والفاسقين فيها؛ فإذا غضب؛ أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وأنه يعم بعذابه الصالح والطالح حين انتشار المنكرات.
وأنه ينتقم من الظالمين عاجلا.
وأنه إذا أراد إهلاك قرية؛ أمر مترفيها؛ ففسقوا فيها؛ فعندها يحق عليهم عذابه، ويدمرهم تدميرا.
وأنه يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء؛ لينيبوا إليه، وينطرحوا بين يديه "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون". الروم.
ومن سنن الله التي لا تتخلف: أن العاقبة الحسنة للمتقين، وعاقبة السوء على الكفرة والمجرمين، وأن له تعالى جنود السماوات والأرض، وجنوده تعالى منها الظاهر ومنها الخفي، وأن المصائب تكفير وتطهير للمؤمنين، وعذاب ورجز على الكفرة والمعرضين المشاقين لحدود الله ورسوله والمؤمنين، وأن حسن الظن من أسباب رحمة الله، وسوء الظن من علل نزول العذاب بالمكذبين، قال رب العالمين: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما* ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما* ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا* ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما". الفتح.
ثالثا: أن الله لا يرسل بالآيات إلا تخويفا، فإذا توالت النذر، ولم يزد العباد إلا إعراضا وتكذيبا واستهزاء؛ أنزل الله بهم العقوبة والنكال، فرحمته سبقت غضبه، ومن رحمته أنه لا يعذبهم بغتة، ولا يأخذهم على حين غرة؛ بل يمهلهم المرة تلو الأخرى، حتى إذا استوجبوا العذاب؛ عذبهم "ولعذاب الآخرة أشد وأبقى". طه.
رابعا: أن العباد لا يصلحهم إلا هذا؛ فلو أمدهم بأرزاقه ونعمه؛ لبطروا وكفروا، وتعنتوا وقست قلوبهم؛ قال تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض...). الشورى.
خامسا: أن الله يذكرنا بعظيم قدرته وأخذه ونكاله، كيف أخذه لمن كانوا أقوى منا وأشد بأسا قوة، وأكثر أموالا وأولادا؛ فما أغنى عنهم ذلك من عذاب الله شيئا "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض...". الأنعام.
سادسا: أنه تعالى يذكرنا بعظيم رحمته وفضله علينا "قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذا لنكونن من الشاكرين* قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون). الأنعام.
سابعا: أنه تعالى يذكرنا بالبعث والنشور، والحساب والإياب" ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون". الأنبياء.
ثامنا: أنه تعالى يريد منا شكره على نعمه التي لا تحصى "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار". إبراهيم.
تاسعا: أنه تعالى يريد منا إظهار الصبر والاستكانة والتضرع "وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون". البقرة.
وقوله:" فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون". الأنعام.
عاشرا: أن الإيمان والتقوى من أسباب كشف العذاب، وأنه تعالى أراد الكفر إرادة كونية لا شرعية، فالمسلم يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تبارك وتعالى "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا... ". يونس.
" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم...". هود.
فهذا الوباء ضرب البشرية في صميم اقتصادها، فتوقفت كثير من وسائل النقل البرية والبحرية والجوية، وفرض على الناس حظر التجول، وحرموا من التجمع، فأناب من أناب، وأصر على كفره من ختم الله على قلبه" وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون". يونس.
إلى غير تلك الفوائد والعبر.
هذا، والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبيا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم/
أبو عبدالملك، عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
المدينة، الاثنين ١٤٤١/٧/٢٨
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق