(كيفية التعامل مع إساءة الآخرين لك)
لا ريب أن الإنسان مزيج مركب وخليط منسجم من عظم ولحم، فهو مشاعر وأحاسيس، وليس طبيعيا من ليس كذلك، ولكن إذا زادت المشاعر أو قلت الأحاسيس عن مقدارها الطبيعي؛ فذلك إنسان ليس بطبيعي!
إذا اغتم الإنسان أو اهتم لكلمة جارحة، أو لفظة نابية، أو إشارة مؤذية، أو تصرف سيء من هنا وهناك؛ فلازمه ملازمة الظل، يأكل معه الهم ويشرب، ويغدو ويسرح، وينام معه إذا نام، ويستيقظ باستيقاظه؛ فذاك إنسان غير طبيعي!
الإنسان الطبيعي والعاقل هو من يقدر قيمة الكلمة ومعناها، فيضعها موضعها اللائق بها - بلا إفراط أو تفريط -، ولا يجعل للآخرين عليه سبيلا في أن يهتم أو يغتم أو يعبأ أو يأبه بتصرفاتهم السيئة؛ بل يجعل - من أقوالهم وأفعالهم السيئة صوبه - درعا واقيا، وحصنا حصينا، وقصرا مشيدا، وسورا حديديا، لا يستطيعون أن يظهروا فوقه؛ لأنه نظر إلى ذاته ونفسه، ووثق بها - بعد ثقته بربه وسيده ومولاه -؛ فعلم أن كلام الناس لا يقدم ولا يؤخر، فرماه خلف ظهره، ودفنه في مقبرة النسيان، وكبر عليه أربعا، وذكر الله كثيرا، وصلى وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشغل وقته بما يرجو عائدته وفائدته عليه وعلى أسرته ومجتمعه، ووطنه وأمته - من قراءة لكلام الله، وحفظ له ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واطلاع على سير الصالحين الأبرار؛ من الأنبياء عليهم السلام، والصحابة الأخيار، وسلف الأمة الصالحين، وتعلم اللغة العربية ولغة أخرى معها، وتأليف لمقال أو كتاب، أو سعي في نشر الدعوة إلى الله وتبليغ العلم للناس كافة بمختلف الوسائل وشتى أنواع الأساليب، وزيارة للجيران والأقارب والأرحام والأصدقاء -.
الإنسان العاقل والطبيعي نعم يفرح ويحزن، ويضحك ويبكي، ويبتسم ويكفهر، وينبسط وينقبض، وليس طبيعيا من ليس كذلك؛ لأن الإنسان مخلوق في كبد ومشقة ونصب وتعب وعناء؛ فوجب أن يقع عليه مثل ذلك، وأن ترد عليه تلك الواردات، فالشأن كل الشأن هو في كيفية التعامل والتكيف مع تلك المتغيرات والطارئات والواردات!
فمن الناس من يجعل من الحبة قبة، فيضخم الحوادث والمشكلات، ويقتل أوقاته بالتفكير في المشكلة لا في حلها!
إن الإنسان العاقل والطبيعي هو من يفكر في الحلول لا في المشكلات، وفي كيفية إثبات نفسه، لا في محاولة الاستسلام لقهر الناس وجبروتهم في كلماتهم النابية، وتصرفاتهم الحمقاء، وتعاملاتهم الرعناء، فيكون طودا شامخا، وجبلا راسيا، لا تهزه الأعاصير، ولا تزعزعه الرياح العواتي، ولا تقذف به الأمواج يمنة ويسرة، فيكون كما يريد على وَفق ما أراد الله وشرع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى سنن وهدي السلف الكرام - رحمهم الله ورضي عنهم -.
الإنسان العاقل والطبيعي هو من ينشغل في بناء نفسه إيمانيا وروحيا وفكريا وثقافيا واجتماعيا ورياضيا، ويدع للناس إساءاتهم، فما أساء أحد لأحد؛ إلا كانت إساءة المسيء عليه، والفضل للغافر والصافح والعافي، فما أساء أحد إليك؛ بقدر ما أساء لنفسه، وعرضها لمنشار كلام الناس وطاحونهم!
وتذكر أن الكمال عزيز، فلا تحاول إرضاء كل أحد؛ لأنك لن تستطيع، فالناس اختلفوا في الخالق، ألا يختلفون في المخلوق الضعيف العاجز الحقير الصغير؟!!
وتذكر أنه كما أن الأرزاق قسمة ونصيب من الرب العلي؛ فإن الأخلاق قسمة ونصيب "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون". الزخرف.
ولئن كان كلام الغرباء ونقدهم الهادم يمس من النفس ومشاعرها وأحاسيسها؛ فإن كلام الأقربين أشد وأنكى
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على النفس من وقع الحسام المهندِ
وبالجملة؛ فإياك ثم إياك أن تتكل على رحمة وعفو وصفح أحد سوى الله تعالى؛ فإنه نعم المولى ونعم النصير؛ ففر إليه، وتوكل عليه، واطرح الهموم، وودع الغموم، وكن مجابها عنيدا، ومقاتلا شرسا صنديدا في وجه الكلام الجارح، والألفاظ النابية، والعبارات المثبطة، متمثلا لهذا البيت:
يخاطبني السفيه بكل قبح ** فآسف أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما ** كعود زاده الإحراق طيبا!
وقولِه - جل قوله -:
"والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين". آل عمران.
فعدم الفاتك لكلام الناس وتثبيطهم وتخويفهم وإرجافهم؛ يولد لديك - مع الأيام - درعا واقيا، ومناعة قوية، وحصانة شديدة تجاه كل تصرف أو سلوك سيء من إنسان زاد على حجمه الطبيعي؛ فاستهان واستخف بك، أو تكبر وتغطرس عليك، أو حقد عليك، أو أطلق سهام حسده نحوك؛ فصيرك الشيطان الرجيم، ورماك بكل معضلة وداء، وصدق الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ** ولكنَ عين السخط تبدي المساويا!
وحرره/
أبو عبدالملك، عبدالرحمن بن مشعل المطرفي.
الأحد ١٤٣٩/١١/٩.