(هل نحن أحرار؟! )
طرأ بمخيلتي، ودار في خاطري، وجاش في صدري هذا التساؤل - ونحن في عصر مليء بالصخب، هائل بالفوضى والعشوائية، مشحون بالأنا والاندفاعية - : هل نحن أحرار؟!
وليسأل كل واحد منكم نفسه هل هو حر؟!
هل هو مقيد بوظيفته؟ براتبه؟ بالسلطة؟ بالكرسي؟ بالمنصب؟ بالجاه؟ بالتقاليد والأعراف المجتمعية؟ بالأفكار الغربية والشرقية؟
هل هو مقيد بنفسه الأمارة بالسوء؟ بالهوى والشيطان؟! بالأصحاب والخلان؟
هل هو مقيد بالمناهج والأفكار والرؤى والقوانين الأرضية، والدساتير الوضعية؟!
هل يشعر بانفكاك نفسه وتحرره من رق العبودية إلا لله؟ ومن التجرد من كل مؤثر غير محق في ذاته؟ أم أنه يبذل كل ما بوسعه من أجل حفنة مال، أو كرسي منصب، أو ظهور أمام الناس، أو تحقيق ملذة نفسه الأرضية الذاتية النفعية، أو مسايرة مجتمع ما، أو فكر ما، أو ثقافة ما، أو منهج ما، ولو على حساب المبادئ والدساتير والأفكار والرؤى السماوية؟!
إننا في عصر مخيف - حقا -، لينظر كل واحد منكم حوله؛ ليرى الفئام من الناس وقد انحطت هممهم إلى القاع - مع توفر كل الوسائل وشتى الأساليب -، فلا هم لأحدهم إلا المال؛ يمتلكه المال ولا يملكه هو؛ بل أصبحت الدنيا مستولية عليه؛ فلا يعادي ولا يوالي إلا عليها، ولا ينافس ولا يقاتل إلا من أجلها، ولا يخوض إلا فيها!
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان الرعيل الأول، وكان سلفنا الصالح - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - قد فتحوا الدنيا ب (لا إله إلا الله) ولم يدخروا وسعا في إعلاء كلمة الله، وتنكيس راية الشيطان وأولياء الشيطان وحزب الشيطان - مع قلة الوسائل المتاحة لهم مقارنة بعصرنا - ولكنهم لما آمنوا بالله حقا، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - صدقا، واعتزوا بدينهم؛ فتحرروا من كل عبودية سوى عبودية من يحيون بذكره؛ رفع الله منارهم، وأعلى مقامهم، وحفظ بنيانهم، وملكوا الدنيا، ولكنهم ملكوها ولم تتملكهم! أخذوها في أيديهم ولم يزرعوها في قلوبهم؛ فحصدوا العز والكرامة، وأصبحوا أحرارا بعبوديتهم للواحد المستحق للعبودية - جل في عليائه -!
أما نحن، فالله المستعان، طالع؛ ترى عجبا، إي وربي، عجب يعجب منه العجب، ترى من باع دينه وشرفه وكرامته وعزة نفسه، وشهامته ومروءته، من باع ضميره وأخلاقه، من باع كل ما يملك - إن كان يملك شيئا - من أجل أن ترضى نفسه الأمارة بالسوء!
من أجل الهوى والشيطان!
من أجل المال والمنصب والجاه والسلطة والكرسي!
من أجل المجتمع والمحيط!
من أجل الشهرة!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وترى الحشود الهائلة من أشربت قلوبها (حب الدنيا)، ما زال بهم العنت والمشقة في الكلف بها، والافتتان بزخرفها؛ حتى مرضت القلوب، وجفت العيون، واشمأزت النفوس من كلام الباري - جل جلاله -!
هذا السعار المجنون في طلب المادة - ولو على حساب الروح -؛ أضر بالمجتمعات ضررا لا حصر له، حتى يتردى الإنسان في دركات الهم، ويستولي عليه الغم؛ فلا ترضيه الدنيا بما التهمه منها، وبما أسسه وأقامه فيها، وبما ملك فيها ما ملكه قارون؛ فيقدم على التخلص من الحياة نفسها، بقتل نفسه نعم!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وترى الأولين لم يملكوا ربع معشار ما ملكنا نحن، ولكنهم كسبوا العزة والشرف والكرامة والإباء!
ملكوا نفوسهم؛ فلم تهجنهم الحضارات الأخرى الدخيلة، المشوبة بكل شائبة، الحضارة المتعفنة المادية، فهم عرب مسلمون، ونحن أصبحنا نفتقد - في أحايين كثيرة - أخلاق العرب الجاهليين الأوائل فضلا عمن بعدهم!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أجدادنا الأوائل؛ عاشوا على التمر والماء، لم يتلطخوا بهذه الحضارة العفنة، وكان رصيد الواحد منهم دلو مائه، وخباؤه، وكلبه - أكرمكم الله - الذي يحرس الماشية، بهذه البساطة والعفوية، ومع ذلك هم أسعد - بكثير - ممن نرى من أهل زماننا، الذين أنشئت لهم مستشفيات؛ ليعالجوا من خلالها أمراض النفس وعللها!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أصبح مرض العصر الفتاك، وداؤه العضال (حب الدنيا) بل (الغلو في حب الدنيا)، حتى أصبح الكثير من الناس غير قانع بما رزقه الله به من مال أو صحة أو أهل أو أولاد!
لأنه يتلفت ويرى أهل الدنيا والأموال؛ فيتحسر، ولا يرضى، ولا يقنع، بخلاف نظرته للدين، فلا يتحسر، ويقنع فيه بالقليل اليسير، ويأخذ فيه بالرخص، ويرى نفسه كأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبعد:
لنحرر أنفسنا من عبودية كل أحد، إلا الواحد الأحد؛ لنرضى ونقنع ونسعد، ولا ندع طاغوت المادة العصري أن يفتك بأرواحنا، ويقتل ما تبقى من كرامتنا، ويسلخ عروبتنا، ويدنسها بالمذاهب الرديئة، التي عبدت المادة على حساب هناء ورضا وطمأنينة واستقرار الروح!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طبرجل- الأحد ١٤٤١/١/١٠.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق