الجمعة، 3 أغسطس 2018

فريضة التفكر ٢

(فريضة التفكر ٢)

وقد قال المولى - عز وجل -: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا* فيذرها قاعا صفصفا* لا ترى فيها عوجا ولا أمتا* يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا* يومئذ لا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا). طه.
ويقول - جل وعلا -: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث* وتكون الجبال كالعهن المنفوش* فأما من ثقلت موازينه* فهو في عيشة راضية* وأما من خفت موازينه* فأمه هاوية* وما أدراك ما هيه* نار حامية). القارعة.
فالمؤمن الفطن العاقل اللبيب؛ يتفكر، ويتدبر، ويتبصر في مصيره المحتوم، وأجله المعلوم، ويتخذ من مشاهداته ونظره فيما خلق الله عظة وعبرة؛ يسلك بها الطريق إلى الله، فيبصر دربه، ويعرف ربه، ولا يصرف وقته في الإعراض عن الله، الذي كل الشقاء في الإعراض عن معرفته، والتولي عن ذكره، وهجر كلامه، وضعف الصلة به - جل في علاه -.
المؤمن حقا؛ يتفكر في يوم تفتت فيه الجبال، وتنسف نسفا، وتكون كالصوف المتمزق.
يتفكر في يوم يأتي فيه الرب العلي - جل وعلا - للفصل بين الخلائق، والقصاص من بعضهم لبعض؛ حيث تقام "محكمة العدل الإلهية"؛ بل "محكمة الفضل الإلهية"؛ حيث يجازى على الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون). الأنعام.
يتفكر في دنو الشمس من رؤوس الخلائق قدر ميل، فمنهم من يبلغ العرق منه إلى حقويه، ومنهم من يتوسطه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون). المؤمنون.
يتفكر في ذلك اليوم المهول العصيب (إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد). الحج.
يتفكر في ذلك اليوم؛ فيتقي الله - جل في علاه -، فلا يكون حيث سخطه وعقابه؛ بل يحرص على ألا يراه ربه وسيده ومولاه إلا في مواقع محبته ورضاه وثوابه؛ فإن فعل؛ فقد أفلح ونجح وزكى، وإن ترك؛ فقد خاب وخسر الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين.
المؤمن الفطن العاقل اللبيب؛ يفكر أثناء سيره إلى ربه ومولاه، يفكر فيما يقربه منه - جل وعلا - وينظر فيما يباعده عنه - سبحانه وبحمده -، فيسلك ما يرضي ربه، ويعرض عن ما يسخطه - جل في علاه -؛ لكي يظفر بخيري الدنيا والآخرة، ويفوز بسعادة الدارين.
وإن الكون كتاب مفتوح، المؤمن يتفكر ويتبصر ويتدبر، والمعرض والفاسق والكافر؛ يتخذ آيات الله - الشرعية والكونية - هزوا ولعبا!
المؤمن يتفكر في يوم فيه (تبدل الأرض غير الأرض والسماوات). الزمر.
في يوم قال الله فيه: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب). الأنبياء.
في يوم يتساوى فيه الملوك، وحاشية الملوك، الوزراء والأمراء والكبراء، الشرفاء والوضعاء، الأغنياء والفقراء، الرجال والنساء، الصغار والكبار، السود والبيض، العجم والعرب، الأولون والآخرون، الإنس والجن والحيوان؛ حيث الكل يجازى (لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب). الزخرف.
(ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا). الكهف.
(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). الأنبياء.
المؤمن يتفكر في المداولة بين الخير والشر، وحزب الشيطان الرجيم، وحزب الرحمن الرحيم، وجند الحق، وجند الباطل، ويعلم أن العاقبة للمتقين، وأنه لا عدوان إلا على الظالمين، وأن النصر حليف الموحدين، ودائرة السوء على الكفرة والملحدين؛ فلا يضره كثرة ما يرى من الهالكين والمعرضين؛ بل لو كان جميع أهل الأرض في حزب الشيطان، ومع إبليس الرجيم؛ فإنه يستعصم بالله، ويستمسك بحبله المتين، ويمضي قدما في إرضاء ربه وسيده ومولاه.
فيتفكر المؤمن؛ هل يعقل أن يضحي بالباقي من أجل الفاني، والآجل من أجل العاجل، والكثير من أجل القليل، والعظيم من أجل الحقير؟!
إن هذا لا يكون إلا ممن طمس الله أبصارهم، وأعمى بصائرهم؛ فلا يهتدون سبيلا (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). الفرقان.
(ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). الأعراف.
فأكثر الناس لا يبصرون ولا يسمعون، ولا يفقهون، ولا يعملون؛ لأنهم لا يتفكرون، ولأنهم (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون). الروم.
وأسوأ الناس من لا يقوم به دين ولا دنيا، ثم من تقوم به الدنيا دون الدين، وأفضلهم من تقوم به الدنيا والدين؛ فإن رب العالمين يقول في كتابه المبين: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين). العنكبوت.
فالمؤمن يعمل للدنيا والدين، ولا يترهبن، ولا ينعزل عن المجتمع المسلم؛ حيث كانت المصلحة راجحة على المفسدة؛ بل يجاهد بالقرءان والسنة والحجج البينات، والدلائل الواضحات، ولا يخشى في الله أحدا، ولا يخاف فيه لومة لائم؛ فعند ئذ يوفى أجره بغير حساب.

بقلم/
أبو عبدالملك، عبدالرحمن بن مشعل المطرفي.
الثلاثاء ١٤٣٩/١١/١٨.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق