الأربعاء، 29 أبريل 2020

وإن تعجب فعجب ٩

(وإن تعجب فعجب ٩)

ومن العجائب في زماننا هذا: ما تبثه وسائل إعلام - معروف عداؤها للدين - من شبهات وشبهات، والعجب ليس في هذا؛ بل في من تستخدمه تلك القنوات؛ لبث البلبة في أفكار وعقول أبناء المجتمع المسلم، المتدين بطبيعته وفطرته، فيظهر - بين الفينة والأخرى - من يلبس لباسا ليس له، فيفتات على أهل العلم الراسخين، يتقدمهم بالفتوى في مسائل فقهية فرعية، ويبث شبهاته عبر تلك القنوات الفاسدة المفسدة، التي يصدق عليها قول الحق - تبارك وتعالى -: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما). النساء.

أقول: والرجل ليس من أرباب الإفتاء؛ بل هو من الدخلاء فيه.

أعلم أن هذه من المسائل الخلافية، ولكن من قال أن الخلاف من الأدلة التي يستدل بها؟

إن الأدلة المجمع عليها هي: الكتاب والسنة والإجماع.

ولا يليق بصاحب دعوة وسنة أن يلج هذا الباب؛ بدعوى التقليد، وأنها ليست فتوى!

لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركن لأقوال الرجال، وأن يستدل بها، فالرجال يعرفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال!

وإن من عجائب زماننا هذا: تغييب قضايا الأمة المصيرية الكبرى، وإشغالها بالمسائل الفرعية (قضايا المرأة، قوامة الرجل على المرأة، الغناء، الموسيقى... الخ)، حتى ينشأ جيل تافه ساقط لاقط، لا يرفع للفضيلة رأسا، ولا يبدي للدين حمية ونصرا، يأخذ بالمتشابه، ويضربه بالمحكم، ويتتبع الرخص، وشواذ الأقوال، وقديما قيل: من تتبع الرخص؛ فقد تزندق، أي: خرج من الدين!

كان الواجب على صاحب الدين والسنة تعظيم الأدلة لا الرجال، وحفظ نفسه من الولوغ في مستنقع الشهرة البائس؛ إذا كان على حساب الدين والفضيلة!

ويدندنون حول سمت أهل العلم، وأنه ينبغي لهم أن يندمجوا في المجتمع، فيلبسوا لباسهم، ويتحدثوا بطريقتهم، يعني إذابة الفوارق بين العالم والجاهل، وهذا في الشرع والعقل لا يستقيم.

كل ذلك يجري على أيدي هؤلاء، ممن يدعون الانتساب لطلبة العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة المطيبة- الخميس ١٤٤١/٩/٧

الأحد، 26 أبريل 2020

التطرف ليس محصورا في الغلو

(التطرف ليس محصورا في الغلو) 

الحمدالله، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، بعد

فإن الفساد نوعان: فساد حسي وفساد معنوي.

وثمة مكر كبار من أعداء الملة والدين في ترسيخ أفكار مضادة للدين في عقول الناشئة والدهماء، وذلك من مثل كون التطرف منحصرا في جانب واحد، وهو الغلو في الدين، والتنطع والتشدد؛ تنفيرا للناس من هذا الدين العظيم.

وهذا من جنس ما جاء به سحرة فرعون، باطل من أصله، وهو زاهق لا محالة بالحق الذي مع المؤمنين.

وكل يعلم أن التطرف ليس مقصورا في طرف واحد؛ بل هو طرفان، غلو وجفاء، إفراط وتفريط، وأن الوسطية هي في هذا الدين الحنيف.

ومن الأسف البالغ أن ينقد المفسدون المتشددون الغالون المتنطعون في الدين، وأن يغض الطرف عن أولئك المبعدين المفسدين لأديان الناس وأخلاقهم، المستهزئين بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الطاعنين في حملة العلم والشريعة المطهرة، المعلنين للرذيلة، المحاربين للفضيلة.

بقلم/

أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
الأحد- المدينة ١٤٤١/٩/٣

السبت، 18 أبريل 2020

سنة الله في المترفين

(سنة الله في المترفين)

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد:

فإن لله عز وجل سننا لا تتغير ولا تتبدل، كسنة الجزاء من جنس العمل، وسنة الأسباب والكسب، فمثلا: في هذه الدنيا من يعمل، ويطرق أبواب الرزق؛ فسيجد ما قدره الله له، وكتبه وقسمه عنده في كتاب، بغض النظر عن ديانة هذا العامل ومعتقده، سنة من سنن الله جارية، وهذا ما نراه مشاهدا في واقعنا الإنساني والحيواني بعامة. والنصوص من كتاب وسنة متظافرة في بيان ذلك؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له). وفي القرآن: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون). التوبة.

إذا علمنا هذا؛ فإن قلوبنا تتفطر دما وأسفا على ما يجري لأمتنا الغراء من نكبات تلو نكبات؛ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفكر، وقبل ذلك في الدين!

من يصدق أن هناك من تسيل دموعه لخسارة فريق كروي يهيم به في أودية العشق؟!

من يصدق أن هناك نفوسا تكاد تقطع من الشوق أو الحزن أو البكاء عند سماعها أغنية من مطرب أو مطربة؟!

من يصدق أن جيلا يمسخ، وعقيدة باطلة ترسخ، ومبادئ وقيم تهدم من أساسها؛ بفعل أذناب الغرب، وخدام الماسونية العفنة، في إعلام المنافقين والدجالين؟!

حتى خرج لنا جيل مترف مرفه، رخو هش ضعيف، لا يقوم بواجب، ولا يرفع بأمته رأسا، قطع انتماءه، وهجر قرآنه، وأعرض عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وشايع الكفرة؛ إعجابا بهم وتقديرا لهم، وشجعهم في نواديهم، وصرف لهم من جيبه - وإن كان لا يملك ريالا! -.

هذا الجيل الجديد الممسوخ، الذي يراد للأمة أن تكون في قابل أيامها مثل ما وصل إليه وأشد، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!

كل هذا بسبب مخالفة الفطرة، فالرجال يتشبهون بالنساء، والنساء يسترجلون، قد انعكست المفاهيم، وانقلبت القيم، وقلبت الفطرة، فرفضت؛ بل واستنكر على من يتحلى بها، وينسب للتشدد والتنطع، وكرم الفاسق والمنافق، وكان يجب أن يعلى شأن أهل الدين، وأن يكبت المنافقون والفاسقون المجاهرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

فكان الجزاء من جنس العمل، أن بلينا بهذا الضعف والخور، فكثرت المظالم، وفشى العقوق وتقطيع الأرحام وهجر الأقارب، وضربت القلوب بعضها ببعض، وسلط بعضنا على بعض، وخولف بين قلوبنا؛ جزاء وفاقا، ولا يظلم ربك أحدا، ونسأل الله ألا يؤاخذنا بذنوبنا، ولا بما فعل السفهاء منا؛ فإن الله يغار ويغضب، وأخذه أليم، وعقابه شديد، يعم الجميع بعقوبته وعذابه ونكاله إذا لم يقم المصلحون بدورهم؛ كما قال تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). هود.
وقال: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) بعدها بآيات، آيات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!

والأمة الخير فيها إلى قيام الساعة بلا ريب، ولكن نظرة تطل بها على هذا الجيل والجيل السابق؛ تعرف مدى الخطر الذي وصلنا إليه، والهوة السحيقة التي تردينا فيها؛ لعوامل ومتغيرات طرأت، من أهمها هذه الوسائل التقنية، ووسائل الإعلام المختلفة؛ حيث فتحت الدنيا على الناس، وللأسف أقول: إن المسلمين هم الأغلب الذين يتلقفون تلك الثقافات الدخيلة، في حين أن كثيرا من المجتمعات لا تقبل إطلاقا بتصدير ثقافة دخيلة عليها! والله حسبنا ونعم الوكيل. 

بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
المدينة، الأحد ١٤٤١/٨/٢٦

الخميس، 2 أبريل 2020

إليك نفزع

(إليك نفزع)

 باسم الإله عظيم القدر بارينا * ثم الصلاة على المختار هادينا
إليك نفزع يا مولاي من قلق * ومن إياس ومن ضر لتنجينا
أنت الحسيب إلهي جل مرحمة * أنت الرقيب وكافي من يعادينا
أنت المهيمن بر لا شريك له * أنت الحليم وعفو منك يدنينا
أنت الرؤوف سلام جل خالقنا * عزيز ذات رحيم بالمصلينا
أنت المدبر للأكوان خالقنا * وباعث الناس يوم الحشر تحيينا
أنت القدير وذو سمع وذو بصر * أنت الجواد وما خابت أمانينا
نحن الضعاف وأنت الله ذو كرم * تجود بالستر من إلاك يغنينا؟!
فهب لنا يا إله العرش مغفرة * تمحو بها ما كان يؤذينا
ولا تأخذ إلهي الناس في دعة * وبالإحسان والألطاف تبقينا
ويا قومي إلى الجنات فاستبقوا * ولا حلم من الرحمن يطغينا
ولا لهو بهذي الدار يفتننا * عن الأخرى فنردى حين يلهينا
حذار الأمن لا نغتر في سفه * ولا قنوط ولا كفران لاهينا
 وصل رب على المختار ما سطعت * شمس النهار وغابت في دياجينا

شعر الفقير إلى ربه القدير/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة النور- الخميس ١٤٤١/٨/٩

الأربعاء، 1 أبريل 2020

طالب العلم... بين الضبط والتحقيق؛ لمشاري الشثري


07‏/10‏/2015

(طالبُ العلم .. بين الضبط والتحقيق) - للشيخ/ مشاري الشثري



طالبُ العلم .. بين الضبط والتحقيق


يمكن القول بأنَّ العلم لم يبقَ فيه مزيدٌ لم يُقَلْ إلَّا ما تعلَّق به من خارجٍ، من مناهج فهمه وطرق تقديمه والتخريج على ما تقرَّر من أصوله، فإن أهل العلم على مرِّ القرون وتعاقب الحقب قد عُنُوا بالعلم تأصيلًا وتفريعًا، فلم يذروا لمن تأخر شيئًا يمكنه القيام به إلَّا أن يُحكِم التعامل مع ما وضعوه، ويفتنَّ في الإفادة مما حصَّلوه.

وإذا قيل بأنَّ هذا من أوضار المقالة الزائفة: "ما ترك الأوَّلُ للآخِر شيئًا"، وأنَّ الناس قد جاوزوها إلى: "كم ترك الأول للآخِر" = كان هذا من القائل ذهولًا عن حقيقة تلك المقالة، وذلك أنَّك لا ترى أحدًا من العلماء يأتي بها إلا وهو على درايةٍ تامَّةٍ بأنَّ أهل القرون الأولى قد أوفوا على الغاية في كلِّ علمٍ، وإلَّا لأمكن أن يكون في المتأخرين من يستبدُّ بعلمٍ لم ينله مجموع المتقدمين، وهذا إن حصل فالعمل جارٍ على رفضه لا قبوله.

وإذًا:

فمعاني الوحي: قد اكتملت بموت النبي صلى الله عليه وسلم.

والعلومُ الخادمةُ للوحي: قد تكامل تأسيسُها في الطبقات المبكرة، فلم يبقَ لمن بعدهم منها شيء، لا لنقصٍ فيهم، بل لأنَّ اكتمالَها أمرٌ طَبَعيٌّ، حيث إنَّ الأولين قد وجدوا العلمَ مفرقًا مبثوثًا فجمعوه وأصَّلوه على غير مثال سبق، فلا يمكن لمن تأخَّرَ أن يعيد من حال التفرق السالف ليبتكر تأسيسًا جديدًا.

فلم يبقَ إلا إغناء ذلك التأسيس بكشف أبعاده، وتوسيع دوائر الإفادة منه، وإقامة قواعد فهمه واستثماره والتخريج عليه، وهذا مجالٌ للإبداع رحْبٌ، وطريقٌ للابتكار واسعٌ.

وطالب العلم إذا استحضر ذلك توفَّرَ همُّه على البَصَر بالإرث الذي خلَّفه أسلافه، مميِّزًا بين مراتبه، مدركًا لوظائفِه وغاياتِه.
*****


إذا تقرَّر هذا، فإنَّ لتحصيل هذا العلم الموروث مقاصدَ، من أجلِّها مقصِدَين متى استحضرهما الطالب وجدَّ في التضلُّع منهما تفحَّلَ علمُه، وبلغَ الرشدَ في التعامل مع العلوم المدوَّنة، ليكون من بعدُ مؤهَّلًا لإغنائها وإثارة دفائنها، وهذان المقصِدَان هما: (الضبط والتحقيق). 

فالضبطُ: لمقدِّماتِ ونتائجِ تلك العلوم.
والتحقيقُ: لتحريرِها والوقوفِ على أغوارها ومقاصدها.

ولكلٍّ من هذين المقصِدَين ذرائعُ يتوسَّلُ بها الطالب للوصول إلى مبتغاه منهما، وكثيرٌ من الكتَّاب في مناهج التحصيل قد أوسعوا القول في مقصد الضبط، ووضعوا له من الوسائل والمناهج ما يعين طالب العلم على تحصيله، إلَّا أنَّ الكلام في سُبُل تحقيق العلم وتحريره كان دون ذلك، وهذا من أسباب ضمور الوعي حول فضيلة تحقيق العلم، ما جعل كثيرًا من الطلبة يُعنونَ بضبط العلم أضعافَ عنايتهم بتحقيقه وتحريره، ولئن كان ضبطُ العلم أولَ مدارج التحقيق فيه، إلَّا أنَّ الغفلةَ عن هذا المقصد وعدمَ الجدِّ والسعيِ في تحصيله قعد بجمهور الطلبة المتمكنين عن بلوغه، ولستَ ترى في عيوب طلبة العلم عيبًا يحرق فؤاد المراقب للبيئات العلمية (كنقص القادرين على التمام).

وسأقتصر في هذه الورقة على وسيلةٍ واحدةٍ من وسائل تحقيق مقصِدَي الضبط والتحقيق، وهي وسيلة "التأصيل المرجعي" .. وفرقٌ بين "التأصيل المرجعي" و "التأصيل المنهجي".

فالمنهجيُّ: أن يكون للطالب في كلِّ مقصِدٍ منهجٌ مؤصَّلٌ وخطةٌ مرسومةٌ.
أمَّا التأصيلُ المرجعيُّ: فأن يتخذ الطالب من كتابٍ/مرجعٍ مَّا أصلًا له .. وعليه.

فإذا كان الحديث شاملًا لمقصِدَين، فعلى طالب العلم أن يتَّخذ له "أصلين مرجعيين":

أحدهما أصلٌ مرجعيٌّ للضبط، وذلك بأن يكون لطالب العلم في كلِّ علمٍ أصلٌ يفيدُه الاحتواءَ على مجامع ذلك العلم ومبانيه، يضبط به مسائله ودلائله، ويقيِّد على حواشيه ما ظفر به من الفوائد من كتابٍ أو درسٍ أو سانحِ خاطرٍ وبارحِه، ومن جرَّب أن يتَّخذَ كتابًا يعتمده أصلًا علميًّا له في علمٍ ما - وكان هذا الكتاب لائقًا بأن يكون أصلًا - ذاق حلاوة الضبط .. غير أنَّ الاقتصار على أصلٍ للضبط في أيِّ علمٍ لا يمكِّن طالبَ العلم من النبوغ فيه، ولا يُزجِي له القدرة على الابتكار في تناول مسائله.

ومن هنا يتأكَّد على طالب العلم أن يكون له أصلٌ مرجعيٌّ للتحقيق، وهذا الأصلُ - كما هو بيِّنٌ من السياق - ليس بديلًا لأصل الضبط، بل هو قرينٌ له، ولا غناءَ لطالب العلم عنهما، فلكلٍّ منهما مقصدٌ لا يتمُّ بناء الطالب حتى يبلغ الغاية منهما.

ولتحقيق موازنةٍ حيثيَّةٍ مقارِبةٍ بين هذين الأصلينِ المرجعيَّينِ، موازنةٍ تستبين بها حقيقتهما = يُنظَر في خمسِ حيثيَّاتٍ:

1. من حيث الوظيفة:
أصلُ الضبط يُراد منه أن يكون وسيلةً لضبط مسائل العلم - فإن تضمَّن عُمَدَ دلائله كان هذا كمالًا -، ويُرادُ منه أن يكون مَجمَعًا لكلِّ ما يَعرِض لطالب العلم من فوائدَ وتنبيهاتٍ على مرِّ سنين طلبه.

أمَّا أصلُ التحقيق فيُراد منه أن يرتاض الطالب بمسالك تحقيق مسائل العلم، وتحرير دلائلها، من خلال نصوصه العالية، وتحريرات المحققين فيه.

2. من حيث المضمون:
أصلُ الضبط في كل فنٍّ لا بُدَّ أن يكون محتويًا على خلاصاتٍ مركَّزةٍ لنتاج علماء ذلك الفن، ومن هنا كان من شرط أصل الضبط أن يكون متأخِّرًا نسبيًّا، لأن كتب المتأخِّرين استحوذت على غالب أصول مسائل المتقدمين مع ترتيبها واختصارها، وهذا لا تكاد تجدُه في الكتب المتقدمة.

أمَّا أصلُ التحقيق فلا يُشترَطُ فيه أن يحتوي على خلاصاتٍ مركَّزةٍ تجمع نتائج العلم، إذ ليس الغرضُ منه ضبطَ المسائل وجمعَها، بل شرطُهُ أن تكون مادَّتُه عاليةً محقَّقةً تمرِّنُ قارئها على تحقيق المسائل وتحريرها، من خلال نصوصه العالية المتقدمة - إن كان الكتاب متقدمًا - أو من خلال موازناته المحرَّرة بين اتجاهات العلماء، ونحو ذلك.

فإن كان هذا الكتاب من الكتب المتقدِّمة كان أحرى باتخاذه أصلًا، ثم إن كان هذا الكتاب المتقدم من (الكتب المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة) بلغ الغاية في هذا الباب، (فإنَّا نجد أربابها قد سبقوا في فصولٍ منها إلى ضروبٍ من اللفظ والنظم أعْيى من بعدهم أن يطلبوا مثله، أو يجيئوا بشبيه له)[1].

3. من حيث الحجم:
أصلُ الضبط غالبًا ما يكونُ كتابًا مختصَرًا أو متوسِّطًا، ولا يليقُ به أن يكون مبسوطًا، لأنَّ الغرض منه أن يحيط به الطالب إحاطةً تامَّةً، فإذا كان مبسوطًا تعذَّرَ الوصول لهذا الغرض.

أمَّا أصلُ التحقيق فغالبًا ما يكونُ كتابًا متوسِّطًا أو مبسوطًا، ولا يليقُ به أن يكون مختصرًا على شاكلة المتون، ولو كان من الكتب المتقدِّمة، لأن الغرض منه أن يكون معمل تدريب وتمرين للطالب على التحقيق، وهذا لا يتحقق بالكتب المختصرة.

وهذا الشرط المتعلق بالحجم شرطٌ تقريبيٌّ، له طرفان ووسط، فطرفاه (الاختصار، والبسط) ووسطه (التوسط)، وكلُّ وسط ففيه إجمالٌ، وإجماله هنا يُبيَّن برعاية بقية الحيثيات، فإذا جعلنا "الكتاب المتوسط" صالحًا لأن يكون أصلًا للضبط وأصلًا للتحقيق، فلسنا نعني به شيئًا واحدًا، بل القصد أنه ليس بمختصر ولا مبسوط، وهذه المساحة فسيحة، أدناها في جانب الضبط، وأعلاها في جانب التحقيق، وما بينهما بينَ بينَ، والمحكم هنا أن لا يكونَ أصلُ الضبطِ مبسوطًا، وأن لا يكونَ أصلُ التحقيقِ مختصرًا، وبالأمثلة اللآتي ذكرها يتبين القصد.

4. من حيث التأثير:
أصلُ الضبط لا يُشترَط فيه التأثير، بل يشترط فيه أن يكون جامعًا للمسائل، كما لا يُشتَرَطُ فيه أن يكون محلَّ عناية العلماء، وإن كان هذا من كماله.

أمَّا أصلُ التحقيق فلا بُدَّ أن يكون مؤثِّرًا، وتأثيره بأن يكونَ مؤسِّسًا لعلمٍ، أو يكونَ أصلًا لاتجاه، أو يكونَ محلَّ درس العلماء وفحصهم، أو كان مدارَ كتبٍ وشروحٍ وُضِعَت عليه واعتراضاتٍ وُجِّهَت إليه، ونحو ذلك.

5. من حيث التعدد:
يمكن لطالب العلم أن يتَّخذَ له في كلِّ علمٍ أصلًا للضبط، أمَّا أصل التحقيق فالعمر يقصر دون اتخاذه في كل علمٍ، لأن أصل الضبط تتحقَّق وظيفته بتكرار قراءته وإدمان النظر والتأمُّل فيه، وهذا القدر وإن كان عسيرًا إلَّا أنه من الممكن تحقيقه لأنَّا جعلنا من خاصَّة هذا الأصل ألَّا يكون مبسوطًا.

أمَّا أصل التحقيق فعامل الزمن هو المؤثِّر الأصيل فيه، بمعنى أن ثمرته ووظيفته إنما تُنال بالعيش معه، والتدسُّس في أعطافه، فليس الغرضُ منه الوصولَ إلى المعلومة وتصوُّرَها وحفظَها، بل التغلغل في بواطنها والحفر إلى أصول جذورها، وهذا يحتاج إلى أزمنة متطاولة، ولذا كان اتِّخاذ أصلٍ للتحقيق في كل علمٍ متعذِّرًا، فالسبيل أن يَتَّخذَ طالب العلم أصلًا للتحقيق في علمٍ أو علمين، يكونان محلَّ تخصصه وتركيزه، ومع ذلك فهذا لا يعني انفكاكه عن جزءٍ من التحقيق في سائر العلوم، فلتكن له إلى كلِّ علمٍ زوراتٌ راتبةٌ إلى كتبه المفصَّلة، متأمِّلًا في بعض أبحاثها، ودارسًا لجملةٍ من مسائلها.


*****

ولتقريب المراد أضرب أمثلة مجملة في جملة من العلوم لأصول في الضبط التحقيق روعيت فيها هذه الحيثيات، ثم أشفعها بمثالينِ مفصَّلينِ لمزيد بيانٍ لفكرة الأصل المرجعي:


(1) أمثلة مجملة:

ففي الفقه:

من أصول الضبط:
- "الاختيار لتعليل المختار" في فقه الحنفية
- "شرح الدردير على مختصر خليل" في فقه المالكية
- "شرح المحلي على المنهاج" في فقه الشافعية
- "الروض المربع شرح زاد المستقنع" في فقه الحنابلة ..
أو المتونُ مجرَّدةً من هذه الشروح.

ومن أصول التحقيق:
- "شرح مختصر الطحاوي" للجصَّاص
- "مدونة سحنون"
- "الأم" للشافعي
- "نهاية المطلب" للجويني
- "المغني" لابن قدامة.

وفي أصول الفقه:
من أصول الضبط:
- "شرح المحلي على جمع الجوامع"
- "شرح الكوكب المنير" لابن النجَّار ..
أو المتون مجرَّدةً من هذه الشروح.

ومن أصول التحقيق:
- "الرسالة" للشافعي
- "الفصول" للجصَّاص
- "البرهان" للجويني.

وفي التفسير:
من أصول الضبط:
- "تفسير الجلالين"
- "تفسير البيضاوي"
- "التسهيل" لابن جزي.

ومن أصول التحقيق:
- "تفسير الطبري"، وهو أمثلُ الكتب الصالحة للتحقيق في هذا العلم.

وفي النحو:
من أصول الضبط:
- "شرح الأشموني على ألفية ابن مالك"
- "التصريح بمضمون التوضيح" للأزهري ..
أو المتون مجرَّدةً من هذه الشروح.

ومن أصول التحقيق:
- "الكتاب" لسيبويه
- "المقتضب" للمبرد
- "التذييل والتكميل" لأبي حيان.

وكتاب سيبويه أعظمُ مثالٍ لأصول التحقيق المستجمعة للشروط، فقد استوفى الجمْعَ والتفصيلَ والتأثيرَ، مع كونه كتابًا متقدِّمًا، مؤسِّسًا.

وفي البلاغة:
من أصول الضبط:
- "مختصر المعاني (شرح تلخيص المفتاح)" للتفتازاني
- "شرح عقود الجمان" للسيوطي ..
أو المتون مجرَّدةً من هذه الشروح.

ومن أصول التحقيق:
- "أسرار البلاغة" للجرجاني، وهو أمثلُ الكتب الصالحة للتحقيق في هذا العلم.

وفي متن اللغة:
من أصول الضبط:
- "مختار الصحاح" للرازي
- "المصباح المنير" للفيومي.

ومن أصول التحقيق:
- "تهذيب اللغة" للأزهري
- "لسان العرب" لابن منظور.




(2) مثالان مفصَّلان:

أمَّا المثال الأول: ففي علم (أصول الفقه)، وقد ضربت من أمثلة ذلك "شرح المحلي على جمع الجوامع" أصلًا للضبط، و"البرهان" للجويني أصلًا للتحقيق.

فـ "جمع الجوامع" متنٌ أصوليٌّ مختصرٌ متأخِّرٌ، جمع فيه السبكي من زهاء مئةِ مصنَّفٍ أصولَ مسائل علم الأصول مجرَّدةً من أدلتها، مع العناية بالخلاف الأصولي في غالب المسائل، وعزو الأقوال لقائليها، و"شرحُ المحلي" عليه شرحٌ ممزوجٌ مختصرٌ، عُني بحل ضمائر الجمع وإبراز دفائنه، مع البرهنة لمسائله، وقد عُنِي العلماء بالمتن والشرح، فنَظَمَ المتنَ غيرُ واحد، وشرحه كثير من العلماء، كما اختصره بعضهم، وعلى "شرح المحلي" وُضِعت حواشٍ، كما اختصره بعضهم.

و"البرهان" للجويني يُعَدُّ من الكتب الأصولية المتقدمة، وهو من عُمد الأصول التي كانت محلَّ عنايةِ العلماء واستمدادهم، وهو كتاب فيه نشرٌ للمسائل وأدلتها، مع آلة اجتهادية عالية انبسطت آثارها من أول الكتاب إلى آخره، وكان هذا الكتاب يُنعَت بـ (لغز الأمة)، لوعورةٍ فيه، ولذا لم يتصدَّ له من الشراح إلَّا القليل، ولم يقتصر الجويني على جمع المسائل بأدلتها، بل عُنِي فيها بتحرير العلم نفسه، ومناقشة مقررات أقطابه، وشمل عطاؤه العلمي ما يتعلق بتحقيق المسائل، والأقوال، تصورًا وثبوتًا، برهنةً وتزييفًا، كما لم يقتصر فيه على مذهب الشافعي الذي ينتحله، بل ركب فيه مطيَّة الاجتهاد، وكانت منه المذاهبُ كلُّها على صفيحٍ واحدٍ.

هذا استعراضٌ موجَزٌ لطبيعة هذين الأصلين يتبين به سببُ اتِّخاذِ كلٍّ منهما أصلًا، فإذا استبان ذلك لم يبقَ إلا بيان كيفية تعامل الطالب معهما، فيُقال:

"شرح المحلي" لما كان أصلًا للضبط فإنَّ على الطالب أن يطلب منه ما يُضبَطُ لا ما يُحقَّقُ، فيُعنى بالمسائل والدلائل دون بحثٍ في جذورها ومناطق التأثر والتأثير فيها، فإذا راجعَ غيرَ "شرح المحلي" من شروح "الجمع"، فهو إنما يطلب منها ما يتعلق بسلامة تصور المسائل واستيفاء القيود ونحوها مما يُحكِم به الطالب ضبطَ المسائل، وكلَّما عَرَضت له في الكتب الأصولية ما يتعلَّق بهذا الجنس من المعارف ألحقها بنظائرها من "شرح المحلي"، لتكون من جملة ما يكرره ويضبطه.

أما "البرهان" فلكونه أصلًا للتحقيق فالطالب يتعامل معه بتأنٍّ بالغٍ وتريُّثٍ شديدٍ، فهو ينتقل من ظواهر الكتاب إلى بواطنه، يطلب من مجموع الكتاب نظريةً في العلم، ومنهجًا في رسم المسائل، وطريقة في تحرير الدلائل، ويبحث في كل مسألة عن أثرِها وتأثُّرِها، أثرِها في مسائل الأصول والكتب المصنفة فيه، وتأثُّرها بهما، ويقف مع موازنات الجويني وقوفًا طويلًا ليدرك أصول المدارك والمآخذ، وينظر في طبيعة تعامل الجويني مع الخلاف الأصولي والنصوص الأصولية، كما ينظر في محالِّ النقد التي تلقَّاها كتابه من خلال شرَّاحه أو ما تفرق في كتب الأصول، وأيضًا ينظر في النقد الذي وجَّهه الجويني إلى غيره من الأئمة والأصوليين فيعقد الطالبُ لذلك مجالسَ موازنةٍ مفصَّلةٍ تتناول تصور الاعتراض وصحة توجيهه، ويتَّتبَعُ أدوات الجويني في تحقيق المسائل الأصولية ونقدها وطريقته في تفعيلها .. فمنهج "البرهان"، ومسائله، ودلائله، ونقداته، وأدواته، ومشكلاته = كلُّها تقع في محلِّ البحث والنظر عند الطالب المحقق.



أمَّا المثال الثاني: ففي (علم النحو)، وقد ضربت من أمثلة ذلك "شرح الأشموني على ألفية ابن مالك" أصلًا للضبط، و"كتاب سيبويه" أصلًا للتحقيق.

فـ "ألفية ابن مالك" متنٌ نحويٌّ متأخِّرٌ، تضمُّ خلاصاتٍ مركزةً للمسائل النحوية في جُلِّ الأبواب، مع جملة صالحة من تصريف الأسماء، مع إشاراتٍ إلى الخلاف والأدلة، والعناية بصياغةِ قواعدَ وشروطٍ وتقسيماتٍ في عباراتٍ وجيزةٍ ظاهرةٍ أو أمثلةٍ وإشاراتٍ خفيَّة، و "شَرْحُ الأشموني" شرحٌ متوسِّطٌ ممزوجٌ، حلَّ فيه مرموزات الألفية وضمائرَها، واستشهد لأحكامها، مع تنبيهاتٍ ولطائفَ أودعها كتابَه وحلَّى بها شرحَه.

أما "كتاب سيبويه" فهو الكتابُ المؤسِّسُ لعلم النحو، ضمَّنه القول في النحو والتصريف، مع استعراضٍ واسعٍ لشواهد العربية وما عليه لغة العرب من شعرٍ ونثرٍ، سماعٍ وقياسٍ، باستقراء واسعٍ استوفى فيه جهود النحويين قبله.

وقد كان لـ "كتاب سيبويه" أثرٌ واسعٌ على النحويين باختلاف مذاهبهم ومشاربهم حتى صار عمدة الدراسة النحوية في مختلف القرون، واعتنى العلماء بشرحه، وكشف مشكلاته، كما وضع طائفةٌ منهم كتبًا في شرح شواهده، وكتبًا في الاعتراض عليه، ووضع آخرون في الذبِّ عنه.

وقد ذكر أبو جعفر النحاس أن عليَّ بن سليمان قال: بأن سيبويه قد جعل في كتابه مشتبهًا، ليكون لمن استنبطَ ونظرَ فضلٌ، ثم علَّق على ذلك بقوله: (هذا الذي قاله عليُّ بنُ سليمانَ حسنٌ، لأن بهذا يشرف قدرُ العالم وتفضُل منزلته، إذ كان العلم يُنال بالفكرة واستنباط المعرفة، ولو كان كلُّه بيِّنًا لاستوى في علمه جميع من سمعه، فيبطلُ التفاضل، ولكن يُستخرَجُ منه الشيءُ بالتدبُّر، ولذلك لا يُمَلُّ، لأنه يزداد في تدبره علمًا وفهمًا)[2].

ولما حُدِّث المبرد بقول أبي عمر الجرمي: (أنا مذ ثلاثون سنةً أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه) وكان محدِّثُه متعجِّبًا مستنكرا، قال له المبرد: (أنا سمعت الجرميَّ يقول هذا، وذاك أنا أبا عمر كان صاحبَ حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الدين والحديث، إذ كان ذلك - يعني كتاب سيبويه - يُتعلَّم منه النظر والتفتيش)[3]، قال الشاطبي معلِّقًا: (المراد بذلك أن سيبويه وإن تكلَّم في النحو، فقد نبَّه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني)[4].

ولمثل هذا كان "كتاب سيبويه" من أجلِّ أصول التحقيق.

هذا استعراضٌ موجَزٌ لطبيعة هذين الأصلين يتبين به سببُ اتِّخاذِ كلٍّ منهما أصلًا، فإذا استبان ذلك لم يبقَ إلا بيان كيفية تعامل الطالب معهما، فيُقال:

"ألفية ابن مالك" و "شرح الأشموني" عليها لما اتُّخِذتْ أصلًا للضبط فإنَّ على الطالب أن يجعل منها بابًا لضبط مسائل النحو، ومصطلحاته، وحدوده، وتقسيماته، ويشفع إليها من مختلف الشروح ما يتعلق بهذه الأوعية الضابطة، دون إغراقٍ منه في متعلَّقاتها اللفظيَّة والفنيَّة، وسائرِ الهوامش التي يتعلَّق بها بعض الطلبة.

أمَّا "كتاب سيبويه" فيجعلُ منه طالبُ العربيَّة منطلقَ تحريره في علومها، فلا يدع في "كتاب سيبويه" من أصلٍ ولا فرعٍ، ولا شاهدٍ من شعرٍ أو نثرٍ، إلا درسه وتتبَّع أثره، ويستقرئ بـ "كتاب سيبويه" مشكلاتِ العربيَّة ويتطلَّب فحصها منه ومن غيره، فيرصد وجوهَ الأسئلة ومواضعَ المشكلات[5]، ويتخذ من نصوص سيبويه مادَّة درسٍ واستنباط، يديم فيها النظر ويقلِّب فيها الفِكَر، ويسعى جاهدًا في استكشاف منهج سيبويه في دراسة العربيَّة عرضًا واستنباطًا واحتجاجًا، ويستعين على ذلك بما وُضِع عليه من دراساتٍ معاصرةٍ تناولت مناهجه وآثاره.


هذان نموذجان أردتُّ بعرضهما تجلية فكرة الأصلَين، وبه يُعلَمُ أنْ ليسَ يكفي طالبَ العلم أن يطالع الكتب المهيَّأة للتحقيق مطالعة عابرة، وإذا نظرنا في واقع المحيط العلمي رأينا الكتب المهيَّأة للتحقيق إنَّما تُراجَع لأغراض بحثيَّة، أو لمراجعة مسألة، أو لجرد عابر يُرادُ منه اقتباس بعض الفوائد المتفرقة، وهذا ما تطمح هذه الورقة لدفعه، فلا بُدَّ أن يُجوِّد طالب العلم من تعامله مع هذا الجنس من المصنفات، فيكرِّر مطالعة ما اتَّخذه أصلًا منه ويديم النظر فيه، ثمَّ إنَّ تكرارَه لها ليس تكرارًا مجرَّدًا، بل هو "تَكرارٌ موجَّهٌ" على نحو ما تقدَّم بيانه في المثالين المفصَّلين.

وبذلك يدرك الطالب أن طريقته في التحصيل تختلف باختلاف مقاصده، وذلك يستحثُّه على ضبط مقاصد تحصيله، والجدِّ في اتخاذ الوسائل التي تعينه على تحقيقها .. كما أنَّه بذلك يعلم أنَّ الكتب تختلف مسالك الإفادة منها بحسب مضامينها والمقاصد المبتغاة منها، فليست الكتبُ مجرَّدَ خزانةٍ تُستخلَص منها النتائج فحسب، بل هي معامل تدريب وتمرين للطالب على إذكاء ملكاته والرقي بها متى ما استحضر الطالب ذلك.



*****


كان الشافعيُّ يدمن النظر في موطَّأ الإمام مالك ويقول: (ما نظرتُ في موطأ مالكٍ إلا ازددتُ فهمًا)[6].

وكان المزنيُّ شديدَ التعلُّق برسالة الشافعي حتى قال: (أنا أنظر في كتاب الرسالة منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيه مرةً إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته)[7].

كما كان المازنيَّ شديد التعلُّق بكتاب سيبويه حتى قال: (ما أخلو في كلِّ زمنٍ من أعجوبة في كتاب سيبويه)[8]، وكان عبدالله بن محمد بن عيسى الأندلسي (يختم كتاب سيبويه في كلّ خمسة عشرة يومًا)[9].

وكان ابن تيميَّة حفيًّا بتعليقة القاضي أبي يعلى، حتى كان يطلب من طلابه إحضارها إليه في السجن، فكتب إليهم مرَّةً في جملة ما طلبه منهم: (... وترسلون أيضًا من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخط القاضي أبي الحسين، إن أمكن الجميع، وهو أحدَ عشرَ مجلَّدًا، وإلَّا فمن أوَّله مجلَّدًا، أو مجلَّدين، أو ثلاثة)[10].

وقرأ محمود شاكر على أحد شيوخه لسان العرب قراءتَينِ تامَّتينِ، وبعضَ ثالثةٍ، وقال: (قرأت وأنا في السنة الأولى الثانوية لسان العرب حرفًا حرفًا من أوَّله إلى آخره)[11].

إلى نماذجَ كثيرةٍ استوطنت كتب السير والتراجم ..

وكثيرٌ من الطلبة يطمح ببصر تحصيله إلى ما بلغه أئمة المحققين، ويرجو أن يبلغ في لاحق دهره مراتبَهم، لكنَّه لو تصفَّحَ واقعَه لقطع بأنَّ نوع تكوينه العلمي لا يوصله إلى ما يرجو، بل غايةُ ما يمكنه الوصول إليه هو ضبطُ نتائج العلوم دون القدرة على تحقيقها وتحريرها، فكان من اللازم إذًا هذا التمييز بين مقاصد التحصيل، ليكون الطالب على درايةٍ بحقيقة تحصيله، ثم يتَّخذَ من الوسائل ما يوصله إليها.



مشاري بن سعد الشثري

22/ 12/ 1436 هـ

__________________
[1] الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز للجرجاني - وهي ملحقة بـ "دلائل الإعجاز" - (604).
[2] خزانة الأدب للبغدادي (1: 372).
[3] مجالس العلماء للزجاجي (191).
[4] الموافقات (5: 54).
[5] من النصوص الثمينة في هذا السياق ما قاله ابنُ ولَّادٍ النحويُّ في ردِّه على المبرِّد فيما زعمه من غلط سيبويه في مسائل، حيث قال: (... ومع ردِّنا عليه فنحن معترفون بالانتفاع به، لأنَّه نبَّه على وجوه السؤال ومواضع الشكوك) الانتصار لسيبويه على المبرد (43)
[6] حلية الأولياء (9: 70).
[7] طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2: 99).
[8] خزانة الأدب للبغدادي (1: 371).
[9] بغية الوعاة (2: 59).
[10] العقود الدرية لابن عبدالهادي (349).
[11] ظل النديم لوجدان العلي (100). وانظر: مقالات الطناحي (2: 520)، وفيه: (أخبرني رحمه الله أنه قرأ لسان العرب كله، والأغاني كله، وهو طالبٌ بالثانوي).


ليست هناك تعليقات:

الاثنين، 30 مارس 2020

ابن باديس... نهضة أمة

(ابن باديس... نهضة أمة)

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن قراءة الكتب الأدبية والقصصية لعظماء الإسلام - من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الأفذاذ من العلماء والمجاهدين والمجددين والمصلحين -؛ لهو من المشهيات لدخول عالم القراءة الفسيح، والتلذذ بصرف الوقت في تقليب صفحات الكتب، وشم رائحة الورق، والعزلة المحمودة...

وهذا واقع ملموس ومجرب...

وعني أنا فأقول: إن من أهم أسباب دخولي عالم القراءة وطلب العلم والمعرفة هو ما أشرت إليه آنفا؛ حيث أهداني والدي - حفظه الله في الدنيا ورفعه منازل في الأخرى - بعضا من الكتب القيمة لطالب العلم المبتدئ؛ فكان مما أهدانيه (صور من حياة الصحابة) و (صور من حياة التابعين)؛ كلاهما للدكتور/ عبدالرحمن رأفت الباشا - رحمه الله تعالى -، فكانت نقطة البداية للدخول في هذا العالم الجميل، عالم النور والعقل والفكر والثقافة...

ومرت سنون، فجردت (ذكريات علي الطنطاوي) - رحمه الله تعالى - في شهرين ونصف تقريبا، وسطرت مقالا بعنوان (شذرات من ذكريات علي الطنطاوي) وهو عنوان كتابي الذي سيصدر قريبا بعون الله وتوفيقه...

ومرت أشهر، فكان مما وقع في يدي كتاب ثري جدا، قصصي سردي؛ حيث يحكي قصة عالم نحرير، ومجاهد كبير، وفقيه ومفسر ومحدث، رجل موسوعي بحق، طرد فلول الغازين من الجزائر شر طردة، نعم فرنسا، طردها بسلاح العلم والتعليم، والكفاح المرير، والجهاد الطويل، إنه ابن باديس - عليه رحمات رب العالمين -، والكتاب بعنوان (أيام ابن باديس) لمؤلفه الشيخ د/ حسن الحسيني - وفقه الله لمرضاته -...

وقد تأثرت من قبل بابن جبرين - عليه رحمات رب العالمين - لما قرأت الكتاب الذي في سيرته، وهو بعنوان (أعجوبة العصر)...

ابن جبرين، علي الطنطاوي، والآن ابن باديس، لله هؤلاء الرجال الأفذاذ، لله هم، لله درهم، لله آباؤهم...

(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). الأحزاب.

وهذه بعض النقول من الكتاب المذكور، وهو في مجلد واحد لطيف، يقع في ٢٨٢ صفحة من القطع المتوسط:

١- فسر القرآن الكريم كله خلال خمس وعشرين سنة في دروسه اليومية! ص ٨٠.
٢- أهداف خطة ابن باديس الإصلاحية:
أ- تربية الناس على العقيدة الصافية.
ب- تعليم العلم الشرعي.
ج- محاربة الجهل.
د- نشر اللغة العربية.
ه- نقد الطرق الصوفية.
و- زرع معاداة المستعمر في قلوب الناس.
ز- توحيد الشعب الجزائري تحت راية الإسلام. ص ١١٧.
٣- تحديد ملامح خطة ابن باديس، وهي على ثلاث مراحل:
الأولى: التعليم.
الثانية: الصحافة.
الثالثة: تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ص ١١٧.
٤- ابن باديس: إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإذا كانت لهم جماعة منظمة؛ تفكر وتدبر، وتتشاور وتتأثر، وتنهض لجلب المصلحة، ولدفع المضرة، متساندة في العمل على فكر وعزيمة. ص ١٢٢.
٥- ابن باديس: أنا أحارب الاستعمار بالعلم، ومتى انتشر التعليم في أرض؛ أجدبت على الاستعمار، وشعر في النهاية بسوء المصير. ص ١٢٤.
٦- جهده الإصلاحي في المرحلة الأولى كان في غضون سبع عشرة سنة... وكانت الدروس العلمية تجذب طلاب العلم، ودروس الوعظ تجذب عوام الناس. ص ١٢٥.
٧- قضى ابن باديس ثماني عشرة سنة في التعليم والتربية والعمل الهادي، بعيدا عن الضوضاء وأحداث الصخب، حتى لا يثير انتباه المستعمر الفرنسي تجاهه خلال هذه الفترة، وهذه غاية في الفطنة والدهاء. ص ١٣١.
٨- سياسته التعليمية هي التركيز على الكيف لا على الكم... يقول البشير الإبراهيمي - رحمه الله تعالى - وهو من أبرز شيوخه ومن تأثر بهم: كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء؛ هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة - ولو مع علم قليل -، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا! ص ١٣١.
٩- ابن باديس: إذا أردنا أن نكون رجالا؛ فعلينا أن نكون أمهات دينات، ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليما دينيا، وتربيتهن تربية إسلامية، وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين، فمحال أن نرجو منهن أن يكون لنا عظماء الرجال! ص ١٣٥.
١٠- وتصدى لدعاة تحرير المرأة ولقاسم أمين في كتابه (تحرير المرأة)، فكان مما قال:
وإذا أردتم إصلاحها الحقيقي؛ فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها، قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها؛ فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها، وأما حجاب الستر؛ فإنه ما ضرها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات بغداد، وبنات قرطبة، وبنات بجاية مكانة عالية، ما ضرها في العلم وهن متحجبات! ص ١٣٨.
١١- أولى الشيخ - عليه رحمات رب العالمين - تعليم المرأة عناية بالغة، فقد خصص للنساء دروسا أسبوعية على مدار الخمس سنوات من آخر سني حياته في المسجد الأخضر، وغيره من مساجد قسنطينة، وكن يحضرن بأعداد كبيرة، حتى ضاقت عليهن جنبات المسجد. ص ١٣٩،بتصرف يسير.
١٢- ابن باديس: إذا علمت ولدا؛ فقد علمت فردا، وإذا علمت بنتا؛ فقد علمت أمة! ص ١٤٢.
١٣- ابن باديس: إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت؛ بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد؛ في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج! ص ١٤٧.
١٣- ابن باديس: الواجب على كل مسلم في كل مكان وزمان، أن يعتقد عقدا يتشربه قلبه، وتسكن له نفسه، وينشرح له صدره، ويلهج به لسانه، وتنبني عليه أعماله: أن دين الله تعالى من عقائد الإيمان، وقواعد الإسلام، وطرائق الإحسان؛ إنما هو في القرآن والسنة الصحيحة وعمل السلف الصالح - من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين -، وأن كل ما خرج عن هذه الأصول، ولم يحظ لديها بالقبول - قولا كان أو عملا، أو عقدا أو حالا -؛ فإنه باطل من أصله، مردود على صاحبه، كائنا من كان، في كل زمان أو مكان؛ فاحفظوها واعملوا بها؛ تهتدوا وترشدوا إن شاء الله تعالى. ص ١٧٦.
١٤- ابن باديس: تستطيع الظروف أن تخيفنا، ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا. ١٨١.
١٥- أنشأ ابن باديس المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة سنة ١٩٢٥. ص ١٨١.
١٦- تعرض الشيخ الإمام لمحاولة اغتيال، أدخل على إثرها المستشفى، لكنه عفى عن الجاني، وقال: إن الرجل غرر به، لا يعرفني ولا أعرفه، فلا عداوة بيني وبينه، أطلقوا سراحه! وهذا وربي لهو البلاء المبين، ولكنه لم ينتقم لنفسه، وهذه وربي أخلاق الكبار! ص ١٨٨.
١٧- درس ابن باديس - رحمه الله - التفسير على الشيخ محمد طاهر عاشور، والعلامة محمد الخضر حسين - رحمهما الله -. ص ١٩٣.
١٨- ابن باديس: إننا - والحمدلله - نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم! ص ١٩٦.
١٩- ابن باديس: غايتنا التي ستتحقق أن يكون القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها. ص ١٩٧.
٢٠- ابن باديس: القرآن إمامنا، والسنة سبيلنا، والسلف الصالح قدوتنا، وخدمة الإسلام والمسلمين وإيصال الخير لجميع سكان الجزائر غايتنا. ص ١٩٧.
٢١- إني أعاهدكم على أن أقضي بياضي على العربية والإسلام، كما قضيت سوادي عليهما، وإنها لواجبات، وإني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدي لكم. ص ١٩٧.
٢٢- في وفد المؤتمر إلى باريس؛ ذهب ابن باديس - عليه رحمة الله - مع ثلة من العلماء والمناضلين؛ للمطالبة باستقلال الجزائر عن المحتل الفرنسي الغاشم الظالم، والتقوا وزير الحربية هناك، وصارح الأخير وفد المؤتمر بعدم إمكانية الموافقة على هذه المطالب - خاصة المطلب المتعلق بالحالة الشخصية الإسلامية، وعلاقتها بالجنسية الفرنسية -؛ فأظهر ابن باديس - رحمه الله - تمسكه بهذه المطالب؛ بحجة تمثيلها الحد الأدنى لتطلعات الجزائريين الأحرار.
واشتد النقاش بين رجال الوفد وبين وزير الحربية "إدوار دلادييه"، إلى درجة أنه احتد وجابه الوفد بقوله: لا تنسوا أيها السادة، إن فرنسا معها مدافع طويلة! فوجم القوم كلهم، إلا ابن باديس - عليه شآبيب الغفران - الذي ما كاد يسمع تلك الكلمة؛ حتى ردها عليه بمثل حدته: وأنت لا تنس أيها السيد، مع الجزائر مدافع أطول، معها الله!

عاد الوفد خائبا وهو حسير، سوى هذا المجاهد البطل الهمام؛ حيث عاد ثائرا هائجا، فأطلقها قذيفة باديسية:

شعب الجزائر مسلم * وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله * أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجا له * رام المحال من الطلب
يا نشء أنت رجاؤنا * وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها * وخض الخطوب ولا تهب
وارفع منار العدل وال * إحسان واصدم من غصب
واقلع جذور الخائنين * فمنهم كل العطب
وأذق نفوس الظالمين * السم يمزج بالرهب
واهزز نفوس الجامدين * فربما حي الخشب!
من كان يبغي ودنا * فعلى الكرامة والرحب
أو كان يبغي ذلنا * فله المهانة والحرب
هذا نظام حياتنا * بالنور خط وباللهب
حتى يعود لقومنا * من مجدهم ما قد ذهب
هذا لكم عهدي به * حتى أوسد في الترب
فإذا هلكت فصيحتي * تحيا الجزائر والعرب!

أخذ الشعب يردد هذا النشيد، حتى جنت فرنسا مما يحدث!

غير ابن باديس - عليه رحمات رب العالمين - خطابه في هذه المرحلة من الخطاب السلمي الهادئ، إلى خطاب الكفاح والنضال؛ حيث خاطب الشعب قائلا: إن الوفود لا تستطيع أن تغير شيئا، ولكن الشعب هو الذي يستطيع أن يغير كل شيء، ومتى نفض الشعب عن نفسه غبار الجهل والغفلة؛ أدرك وجوب تسيير شؤونه بنفسه، وأخذ يضع كل شيء في موضعه! ص ٢٢٦.
٢٣- رفضت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين - والتي يرأسها ابن باديس - إرسال برقية تضامن لفرنسا - وهذا قبيل الحرب العالمية الثانية -، وكان مما قاله ابن باديس في الاجتماع العام للجمعية أمام الجماهير الغفيرة: أقول صراحة - واجتماعنا هذا لا يخلو من جواسيس رسميين أو غير رسميين - إني لن أمضي البرقية، ولن أرسلها ولو قطعوا رأسي، وماذا تستطيع فرنسا أن تعمل؟! إن لنا حياتين: حياة مادية، وحياة أدبية روحية! فتستطيع القضاء على حياتنا المادية، بقتلنا ونفينا وسجننا وتشريدنا، ولن تستطيع القضاء على عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا، فتحشرنا في زمرة المتملقين، إننا قررنا السكوت! ص ٢٤٥.
٢٤- اندلعت الحرب العالمية الثانية، فاشتدت الضغوط على هذا الشعب المظلوم المكبوت، وكان من جراء ذلك أن فرضت على ابن باديس - رحمه الله تعالى - الإقامة الجبرية، وعلى رفيق دربه؛ حيث نفي إلى جنوب الجزائر، فأمضى فيها ثلاثة أعوام! ص ٢٤٦.
٢٥- تعرض رفيق درب ابن باديس البشير الإبراهيمي إلى إغراءات من قبل الإدارة الفرنسية، أن يقلدوه منصب "مفتي الجزائر"، أو يستحدثون له منصبا جديدا، وهو "شيخ الإسلام"، في مقابل أن ينشر الإبراهيمي مواقف تؤيد فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وكرروا عليه ذلك؛ لكنه يرفض في كل مرة، ويستعلي بالله، وبنفسه التي لم تذل إلا له - جل في علاه -.
فلجؤوا إلى الترهيب، قالوا له: ارجع إلى أهلك وودعهم، وأحضر حقيبتك، فرد عليهم فورا برباطة جأش عجيبة، ونفس لم تعتد إلا على ركوب المجد والعزة: قد ودعتهم، وحقيبتي جاهزة! ص ٢٥٢،بتصرف يسير.
٢٦- توفي ابن باديس وكان قد بلغ الخمسين من عمره، ولم تك في رأسه شعرة بيضاء واحدة! وحضر جنازته ما يربو على الخمسين ألف نسمة! ص ٢٥٧،بتصرف يسير.
٢٧- اختلف في سبب وفاته، فقيل: مات بسبب مرض ألم به.
وقيل: هما وغما وكمدا.
وقيل: مسموما من طرف الإدارة الفرنسية.
وقيل: بسبب الإرهاق والتعب. ص ٢٥٧.
٢٨- ابن باديس: الجاهل يمكن أن تعلمه، والجافي يمكن أن تهذبه، ولكن الذليل الذي نشأ على الذل، يتعذر أن تغرس في نفسه عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال! ص ٢٦٢.
٢٩- ابن باديس: والله لو قالت لي فرنسا: قل لا إله إلا الله؛ لما قلتها! ص ٢٦٦.
٣٠- ابن باديس: شغلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتاب! ص ٢٦٩.

حرره/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة المطيبة- الاثنين ١٤٤١/٨/٦

الأربعاء، 25 مارس 2020

من أغضب الحليم

(من أغضب الحليم؟!)

الحليم غضب، الكريم هذا بعض انتقامه، ولا يعجب المؤمن حينما يتلفت يمينا أو شمالا؛ ليرى مستوجبات الدمار الشامل، ولكن الله لطيف خبير، حكيم عليم.

قتل وتشريد، انتهاك للأعراض، وتجرأ على الحرمات، وظلم مستطير، وشر مستفحل كبير، وترك أو تضييع للصلوات، واتباع للشهوات، وتقديم للرويبضات السفلة، وتأخير للعلماء الحفظة، وربا متفش، وتشريع للرذيلة، وحرب على الفضيلة، وإجلال للحضارة الغربية، وبخس للحضارة الإسلامية، وصف الأولى بالتقدمية، والثانية بالتخلف والرجعية، وهجر للقرآن، وبغض لسنة النبي العدنان - صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه -، مع ترك الأمر بالخيرات، والنهي عن المنكرات، ورفس للنعماء، وعدم شكر عند الرخاء، وجزع عند البلاء، وتعلق للقلوب بغير علام الغيوب، حتى دنت الكروب والفواجع؛ فأقضت المضاجع، وأوجبت اللوم، وهجر الغفلة والنوم، وإصلاح الخلل، وتدارك الزلل، فلا نجاة بدون الوحيين، وطاعة ولاة الأمر في المعروف، واجتماع الكلمة، وتماسك اللحمة، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، مع اعتزاز بالإسلام، ونبي الإسلام ورسول السلام، محمد بن عبدالله - عليه الصلاة والسلام -، وتمسك بالدين قوي، وأخذ للكتاب بعزيمة، والله هو الموفق على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.

بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي.
طيبة المطيبة- الخميس ١٤٤١/٨/٢