كانت روضة من رياض الجنة، يسودها الأمن، ويلفها السكون، وهل شيء أعظم في الوجود من الأمن؟!
ثم كانت أحداث وأحداث، حتى سطا القوي فمزق الضعيف، وأخذ البريء بتهمة المدان، ونُصبت المشانق، وحزت الرؤوس، وكسرت العظام، وقلعت الأظافر، وفقئت العيون، وكان ما يستحيى من ذكره وما لا يحسن التصريح به، اغتالوا الفضيلة، وزرعوا الرذيلة، وصودرت العقول، بل هجرت العقول المفكرة من تلك البلاد، وقرب الخائن، وأبعد الأمين، وكانت شهوة الأسد في تلك "الرياض" التي استحالت بهمجيته وسطوته إلى "غابة" في المشي وراءه بكل خنوع وذل، وألا يصدر من أي فرد من أفراد تلك الغابة المروعة إلا ما يهوى سماعه، وما يروق لخططه وفكره، فلا يرضى أن يهمس أحدهم همسا دون إذنه، وكل من عارضه، هشم عظامه، وقطع رأسه، أو يتركه حيا يذوق مر العذاب من زبانيته الظلمة المتوحشين، الذين يتوقون لرائحة الدم، ويعشقون الدم، ويسبحون ويهللون إن رأوا شلالات الدم تسيل في "وادي الذئاب"...
استهل "حكم العرش" بالتهديد الشديد، واختزل "فكرة الوطن" في شخصه البليد، ثم مضى يتبختر في مشيته مع زبانيته، لا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا نفسه، ولا يقدس إلا نفسه، يتوق أن يسمع دوما "القائد الخالد"، "صائد الرجال"، "زعيم الأمة العربية"، وألقاب هي في الحقيقة أبعد ما تكون عن شخصية هذا "الأسد المريض"، بل هي مناقضة له تماما...
كان أسدا شرسا، عنيدا، لا يؤمن بالحوار، ولا يسترشد بالرأي، حتى قال عنه مرة خال هذا الأسد: كل أسد في كل غابة عنده مستشارون يستشيرهم، إلا ابن أختي، عنده مستشارون، هم يستشيرونه!!!
وكانت تلك "الغابة" محكومة بحكم أناس أقل من حكم هذا "الأسد المتعجرف" ظلما، ثم لما سطا حزب هذا "الأسد" على العرش، صفى كل معارضيه، حتى من المصفقين له، بل أعز أصدقائه، لأنه لم يرق له، فهذا الأسد - كما صرح مرارا وتكرارا - يعرف خائنة الصدور بما تبديه نظرات العيون، وحركات الأيدي!
تحول حكم "الغابة" في عهد هذا "الأسد المريض" من حكم "الحزب الواحد" و "الفكرة الواحدة" إلى "حكم العائلة والعشيرة"، إلى "حكم القائد الواحد"، وتبخرت الشعارات الحزبية في هواء مفعم بالسموم والحشرات...!
حفرت الذئاب في "وادي الذئاب" لهذا "الأسد المريض" كل حفرة، ونصبوا له كل "فكرة قاتلة"، فاللعب مع الذئاب - ليس ذئبا ولا ذئبين - أمر خطير للغاية، لا يحسن عواقبه هذا اللاعب ب "الأوراق المكشوفة"، المصدر لكل خطاب غبي، متزمت، متصادم، فهو "أسد شرس"، نعم، لكنه لا يحسن "سياسة المراوغة" فلو كان أمام "ثعالب"، لسقط في الفخ، فكيف بذئاب في "وادي الذئاب"؟!!!...
لعب "الأسد المريض" لعبته، ولعبت "الذئاب" مع الأسد، فنصبوا له الكمائن، وحفروا له الحفر، وشقوا له الأخاديد، وفي سلسلة طويلة مدروسة ب "فكر الذئاب" و "مكر الثعالب"، سقط "الأسد المريض" في الشَّرَك، بعد استنزاف ثروات تلك "الرياض" التي حولها بطغيانه إلى "غابة"، لا تسمع فيها إلا "صوت القائد"، و "فكر القائد"، ولا تقرأ فيها سوى "خطاب القائد"، و "أهداف القائد"، وذلك الشعار "عاش القائد"، وكأن البلاد لا تقوم إلا على الشعارات والصيحات والهتافات، دون العمل والتخطيط، والفكر والتنفيذ، والشورى، والتفاهم...!
المهم في "وادي الذئاب" سقط "الأسد المريض"، بعدما سطا على كل ضعيف، وقهر كل مقهور، واستبد بالعرش، ولم يعترف بالحوار، واتخذ من الصدام منهج حكم وتدبير، سقط غير مأسوف عليه، لظلمه وطغيانه، لكنه فاجأ الجميع باستسلامه، ولم يطلق زئيره كما كان يفعل في الماضي، حيث صك الآذان بقوته وعنفوانه، وصوته المنادي بالنضال في الميادين، وعدم الانسحاب، ومن ينسحب خطوة، كان مصيره الإعدام، والقتل، وأن يموت تحت التعذيب، لكن الميزان في فكر "القائد الخالد" أن يموت كل شيء، ليحيا هو، فالخلود له دون الأتباع والرعاع والسفلة من رعيته، هذه الأفعال هي بمثابة "شاهد عيان" على تلك الحقبة الزمنية التي حكمت بها تلك الغابة، فكان مصيرها التخريب والحرق، والتطاحن وحفر الحفر من بعض الرعية لبعض، دون مراعاة لحرمة وطن، ومسيرة شعب، وهذا ما يورثه كل "أسد مريض" في "وادي الذئاب" عندما يلعب ب "الأوراق المكشوفة" أمام "ذئاب" و "ثعالب"، يتقنون اللعبة، ويعرفون الكر والفر، وهم "رواد المسرح" و "قادة الإخراج"، و "أبطال التمثيل"، فماذا يحسن "الأسد المريض" أمام كل هذه الجموع المحتشدة بكل فكر متقد، وذهن متوثب، وهو لا يحسن غير شيء عظيم واحد "تكشير الأنياب المهترئة" بفعل عوامل التعرية، وما معه إلا كل سلاح مهترئ صدء، حتى الزئير لم يكن كما كان في الماضي، فقواعد اللعبة قد تغيرت، والحرب تدار من وراء ستار، ولا حكم للصوت مع السلاح، فهو يجهد الحنجرة والحبال الصوتية دون أدنى فائدة، ولا تسمع الصوت في "وادي الذئاب" إلا إذا اشتد الألم، فهنا قد تنفع الصيحات للتنفيس عن شدة الألم فحسب، لكن أنى لل "الأسد المريض" أن يفهم "قواعد اللعبة" أو "قانون الحبل" أو "نظرية الإقناع" أو "فنون الحرب" وهو لا يحسن أن يسمع سوى زئيره؟!
في النهاية: سلم "الأسد المريض" ما خلف من "ميراث عفن" لألد أعدائه، ولكن لدهائه أكمل "المسرحية"، واجتر في رصيده "أتباع كل ناعق" وهم "فروخ الدجال"، فصفقوا "يحيا القائد"، "عاش القائد"، وهو الذي طعن الوطن في خاصرته، والفكر في صميميته، واغتال كل عقل مفكر، ومنع أي رأي مستبصر، وهو الذي باع "الجمل بما حمل" عندما سقط جريحا مصروعا في "وادي الذئاب"، لعنجهيته وسلطويته، واستبداده بالرأي، وما تثيره خطاباته "التقدمية" من جعجعة، وصدق المثل العربي القائل: "جعجعة ولا أرى طحينا!".
المهم في "وادي الذئاب" أن يسقط "الأسد المريض" فعلا، لكن تنصب له "تماثيل" و "أصنام"، حتى يلعبوا من "خلف الكواليس" بعقول الرعاع من "أتباع كل ناعق"، فيصيرونهم بفعل مكرهم ودهائهم إلى "مجرد أدوات" يلعب بها "المخرج"، ويوجهها كيف يشاء...
ففي "وادي الذئاب" على "أتباع كل ناعق" شيء واحد: "التصفيق الحار"، لكل "صنم"، أو "تمثال"، هم يصدرون الأفكار، و "أتباع كل ناعق" يصفقون لكل "فكرة قاتلة" و "فكر مسموم"، لأن المخرج في "وادي الذئاب" لا يريد عقولا مفكرة، يريد أن يصفقوا ويهللوا لكل "فكرة فاشلة" نبعت من واديه "المشلول"، لتستقر في أرض عدوه، فلها يزرع، ولها يخطط، ولها ينفذ عبر "أتباع كل ناعق"، وقد وفر على نفسه عناء "العسكرة" و "التجييش"...!
يكفي في "وادي الذئاب" أن تصدر "كلب شارع" ليصبح "الأسد المريض"، فيخرج "أتباع كل ناعق" - يتسللون عبر كل سبيل فاشل وطريق ملغوم - يهللون ويسبحون بحمد "الأسد المريض"، حتى يجثو "الجمل بما حمل"، فيتقاسمه كل مريض، ومن ليس بسوي، فعندها قل بصوت بالغ التأثير: على الوطن السلام، وعلى العقول "أحسن الله عزاءكم"، إذا تحكم "الأسياد" في العبيد، وعبثت الذئاب، وسطت الأسود، ومنعت الكلمة، وألجم الخطاب، وأغلقت الأفواه، في تلك الحال قل: عاش "الوطن"، ومات "الصنم"، وإذا كان للذئاب والتعالب مكر، فلأصحاب العقول النيرة فكر، وإذا كان سلاحهم الظلم، فسلاح المفكر عدالته وعقله، وهل أمضى سلاحا من عقل وفكر، وهل سيف أشد وقعا من "العدالة" وهل حكم فوق "حكم الحق"؟!
فلكل حر: اهتف بصوت العدالة: عاش الوطن في ظلال العقل والفكر والعدالة.
لكل حر: قل: هذا عقلي ليس للبيع ولا للإيجار.
لكل حر: هذا ضميري، وهذي حريتي، أذود عنهما بكل غال ونفيس.
لكل حر: العقل والفكر والعدالة والضمير، لا تشترى ولا تباع، إلا في "وادي الذئاب"...
لكل حر: بوابة الأحرار "الأمثال"، وبوابة الذئاب "الحبال"، وما لا يُغلب ب "الحبل"، يغلب ب "المثل"، فاستقوِ بالكلمة على "جور السيف"، ولا تبع ضميرك في "وادي الذئاب"، مهما كلف الثمن، فما الحر إلا بضميره، وإن رأى "أتباع كل ناعق" في ازياد، فما هم إلا ك "الجراد"، وما الأحرار إلا ك "الرياح" تهب على "الجراد" فتطيره كل مطار "وإن غدا لناظره لقريب"، كما تقول العرب...
بقلم/
أبو عبدالملك عبدالرحمن بن مشعل العوفي الحربي.
الدوداء- الثلاثاء- ١٤٤٧/٢/١١.
Abdurrahmanalaufi@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق