كان يتلقى الصدمات، تتلقفه أيدي الخيبة والحرمان، يسيح في أرض الهجران، يثق في أناس، تبين لاحقا أنهم السراب، لم يفلح في إحسان الظن، أجبرته ظروف الزمن أن يقدم سوء الظن، وأن يمشي بحذر، وأن يبني علاقاته بعد التفكير ألف مرة، فلقد لسع أكثر من مرة، وشوه نظره في الوجود بفعل الضغط والكبت، كان مستحقرا لذاته ومركزيته ووجوده بفعل عوامل عديدة، لكنه في نهاية المطاف يزعم أنه خرج من فوهة البركان، ومن عنق الزجاجة، أصبح حر التفكير، حر الإرادة، حر العمل والتوجه في المسير، جرب كثيرا في الحياة، واختط لنفسه مشروع حياته، عرف قدراته ومواهبه وأهدافه، وعرف كيف يحقق ما يصبو إليه، يزعم أنه حقق بعض ما يريد، فهو راض ويطلب المزيد، صريح مع نفسه، صريح مع الناس، وإن كان أحيانا "يعرف من أين تؤكل الكتف"...
قابل فئاما من الناس، وواجه ظروفا عديدة، صقلت شخصيته، وأمدته بمعارف هائلة...
كان كثيرا ما يأوي إلى الكتب والمكتبات، يقرأ أكثر مما يشتري، ولا يقتني سوى الأجود، وقراءته "قراءة مشاريع"، فتجده ينتقي "من بطون الكتب" ينشرها في مقالات، ويقيد الفوائد، ويكتب الخواطر، ويستغل النظر في النفس والناس والحياة والكون، فيدقق ويحلل...
كان في بداياته مولعا ب "مرض الكمالية"، إلى أن استقر به التطواف إلى فهم حقيقة النجاح، فعمل بالممكن، فحمد ربه تعالى على ذلك النجاح الذي تحقق له، ذلك أن الكمال عزيز، والمطلوب هو إتقان العمل، ولا أقل من العمل، أن تخطو خطوة للإمام، يعني أنك سلكت الطريق...وجميل تلك العبارة التي قرأها: بعض المشايع لا تعطيك سرها حتى تخطو خطوة للأمام، وفعلا كان ذلك الأمر تماما هو الحاصل معه، فلقد كتب كثيرا في النثر والشعر، ويزعم أنه تعلم ب "الممارسة" ما لم يتعلمه ب "التنظير"، وهو يزعم أن النجاح الكامل يأتي من التكامل بين التنظير والتطبيق أو الممارسة أو العمل، بل لا يوجد عمل إلا ويسبقه تنظير، ومن رأى سير الناجحين - كما تراه في كتاب الفلاحي "قصص الناهضين" -؛ توقن أن ثمة أعمالا ضخمة ناجحة لم يكن أصحابها على علم كبير، أو لديهم تنظير خطير، نعم، قد يكون هذا من قبيل الاستثناء، لكن العمل والتطبيق غالبا هو محك النظر، ومربط الفرس، وهو خلاصة النجاح، أن تخطو خطوة للأمام، مع الإصرار والعزيمة والتركيز...
إنه في النهاية إنسان، وكفى، وستصدم إذا علمت كونه كلما تقدم في المعرفة، كلما رأى أن ما تراه من هؤلاء البشر لم يرتقوا بعد إلى أن يكونوا إنسانيين بما تحويه هذه المفردة من معاني شاملة، وسمات فاضلة، ولكن الجهل بلاء الأمم في الغابر والحاضر، والعلم هو من يبصر المتعلم بالطريق، وينير له السبيل، ويعرفه أقدار الناس، ومراتب الإنسانية، وإن لم يكن التخلف عن الأخذ بأول أمر قرآني رباني "اقرأ" هو أكبر سبب لهذا الانحطاط الذي نراه في الأمة، فهو بلا ريب من أعظم أسباب تخلفها لمن تدبر واعتبر واستبصر...
نعم إنه إنسان، ولكنه لم ينفك عن تلك الصدمات التي تؤرقه، وما زال يتجرع الغصص والمرارات، ولكنه يصابر، ما زال، لكنه لم يذبل، ما زال، لكنه يقاوم، يقاوم كل تخلف وصلابة واعتداد بالرأي في غير محله، وتعاظم الجهلة، وشراسة السفلة، ولا معنى لإنسان لا يقاوم، وأول جهات المقاومة: هي نفس الإنسان، يقاومها بكل ما فيها من تخلف وجهل ومرض...
إنه إنسان، ويسعى دائما لتحقيق معاني الإنسانية في نفسه، كالإيمان لا يأتي إلا على مراحل، وهو أعرف الناس بنفسه، ولكن يرجو الثبات، فهو كما قال: لا عبرة بالمتحول، أي: من يكثر التنقل...
إنه إنسان، شاعر وناثر ومؤلف، وهو بأخرة أطلق على نفسه لقبا يراه موافقا لما يصبو إليه "الأديب المتفنن"، ومعنى الأدب واضح، والمتفنن أي: ذو الفنون، وصاحب العلوم، هذا في النهاية ما وصل إليه، ولكنه يرى نفسه ناقصا، لأن الرجل دون امرأة ناقص ولا بد، هذا من حيث الأصل، والتمام قريب بحول الله وقوته...
بقلم الأديب المتفنن/
عبدالرحمن بن مشعل بن حضيض العوفي الحربي.
طبرجل- الجمعة- ١٤٤٧/٥/٢.
Abdurrahmanalaufi@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق